د الطاهر الصادق
الشريف
هذه بعض الذكـــــريات
فــي معتقــل أبو سليــــم، أكتبهــا تحت إصـــرار أخـــي العزيز فتحي رجب العكارى
الحريص علي تسجيل حقبة الباغي القذافي، فقد طلب منى الأخ فتحي في كل لقـــاء مــــعه كتـــابة مذكــراتي لتبقى
ذكرى للأجيـــال القادمــــة. وها أنا أستجيب إلى طلبه . واسرد قصتي ..
أخي
العزيز :
تم اعتقالي في سنة 1984، مع مئات الليبيين في
قضية جبهة الإنقاذ بعد
أن وُجد اسمي ورقم هاتفي مع المرحوم أحمد إحواس. وتعود بي الذاكرة لسرد تفصيل هذا الاعتقال .
اليوم
الأول
في يوم الأثنين السابع من شهر مايو لسنة 1984،
عند رجوعي من العمل بمركز البحوث النووية وكنت متعاوناً فيه ، حيث أن عملي الرسمي
هو عضو هيئة تدريس بكلية العلوم جامعة طرابلس. وبعد تناولي وجبة الغذاء، دق جرس
الباب ، وبالسؤال عن الطارق تبين أنه شخص
يريد معرفة عنوان أحد ساكني الحي، وعند خروجي من البيت وجدت شخصان لم أكن اعرفهما
قد وقفا في الصف المقابل لمنزلي ، وقطعت الطريق وقمت بمصافحة الشخص الأول ، وبمجرد
مصافحتي للشخص الثاني أمسك بيدي وقال أنا الرائد النعاس وعندي أمر بالقبض
عليك، طلبت منه أن يسمح لي فقط بتبليغ الأسرة فرفض، وقام الشخص الثاني بتبليغ
الاسرة بواسطة سماعة جرس الباب، وقال لهم خمس دقائق وسوف يرجع الدكتور، نحن جهة
أمنية . ولكن تلك الدقائق استمرت أربع سنوات. سألت الرائد النعاس عن سبب أمر
القبض ، فكانت إجابته" هل تحسبني خائن حتى أفشى لك السر، أنت تعرف شن عامل"، وكانت معاملته في غاية العنجهية
والقسوة، وانطلقت بنا السيارة إلي مقر الأمن بشارع الجمهورية سابقاً ، وكانت
الساعة حوالي الخامسة مساءً، ولما وصلنا إلى ذلك المقر كانت هناك حركة غير عادية
وعدد المقبوض عليهــم في تزايد مستمـــر، ومـــن ضمـــن هــــؤلاء الأخ حسن
نشنوش وهنا عرفت أن الموضوع يخص جبهة الإنقاذ. وبدأ السؤال عن الاسم وعنوان السكن للتأكد من أن الشخص المقبوض عليه
هو المطلوب فعلاً. وعلى تمام الساعة الحادية عشر ليلاً تم نقلي إلى سجن أبو
سليم. وعند وصول السيارة إلى السجن كانت سيارة أخرى قد وصلت وكان بها بعض النساء
تم القبض عليهن كذلك ..
وجدنا حارس على بوابة السجن قصير القامة بيده عصا
غليظة أطول من قامته، كانت مهمته شتم وضرب الداخلين الى السجن كاستقبال ساخن ، وأعترف
أنه قد أجاد دور الاستقبال بدرجة ممتاز.
بعد ذلك تم وضعي منفرداً في زنزانة لايوجد بها نافدة أو إضاءةً .
كان
لزبانية النظام الفاسد خطط مدبره حيث تأتى كل ساعة
علي مدار اليوم مجموعة مكونة من اثنان وأكثر لتسجيل أسماء المعتقلين وشتمهم وضربهم
وكان القصد من ذلك زرع الخوف ومنع النوم
عنا حتى ننهار أمام التحقيق .
اليوم
الثاني
في
مساء اليوم الثاني من اعتقالي فتح باب الزنزانة وقام الحارس بإلباس كيس قماش أسود
على رأسي لمنعي من الرؤية، واقتادني إلى حجرة التحقيق، وفي الطريق كان الحارس يشتم
ويضرب ويقوم بتوجيهي الى حائط أو باب حتى أصطدم به ،فأسمع عندئدٍ ضحكات بصوت عالي ،
والله إنها السادية التي تربى عليها زبانية النظام ، وكنت أسمع صراخاً كلما اقتربنا
من مكان التحقيق زاد الصراخ الصادر من شخص تحت التعذيب مما يزيد في النفس رعباً وخوفاً. وصلت
إلى مكتب التحقيق وهنا كان التسأول والتركيز عن نوع السلاح الذي أملكه ؟ وما هي الأوامر
التي تم تكليفي بها ؟ والأماكن الإستراتجية التي سوف استهدفها ؟ . ورغم
التهديد والوعيد ، الا اني لم أتعرض إلى
التعذيب الجسدي في هذه الجلسة. وأثناء التحقيق كان هناك محققون من السودان ومصر عرفت
ذلك من لهجتهم. وبعد حوالي ثلاثة ساعات طُلب من الحارس إرجاعي الى السجن بنفس
الطريقة التي أحضرني بها. قادني الحارس
الى حجرة أخرى بها نافذة. واستمرت عملية
الاستفزاز وعدم السماح بالنوم طوال فترة التحقيق الذي استغرق عدة أيام .
اليوم
الثالث
في اليوم الثالث فُتح باب
الزنزانة، ثم دُفع بشاب يدعى /خالد ابن الشيخ يحي
معمر. ولقد حكى لي عن أحداث العمارة المشهورة التي حصلت في اليوم الثامن من شهر
مايو 1984 التي لا علم لي بها. وعلمت أن مجموعة أفراد من جبهة الانقاذ دخلوا إلى
باب العزيزية في سيارة جمع القمامة، وكان غرضهم اغتيال الطاغية المقبور القذافى،
ولكن لم يتم النجاح لهذه العملية. فاحتمى الأفراد في عمارة بشارع النصر ، حيث حصلت
واقعة العمارة المشهورة وقد استشهد فيها
بعض أفراد الجبهة.
في اليوم التالي ليلاً، تم سحبي بنفس
الطريقة السابقة إلى التحقيق للمرة
الثانية. وكــــان في استقبالى كـــلب النظـــام السابق الهــــالك العقيـــد خيري
خالد والمجــــرم خليفة حنيش، الذي كان متخصصاً في شتى فنون التعذيب، فقد قام
بضربي و جعلني مثل كيس الملاكمة. وتحت التعذيب اعترفت أني أتبع جماعة التبليغ،
لأنها كانت أقل ضرر في ذلك الوقت وغير مطلوبة من النظام. وفي نهاية جلسة
التحقيق مع المتخلف الهالك خليفة حنيش الذي لم يتحصل مني علي أي معلومات عن
المعارضة في أمريكا، طلب من أتباعه عبدة الطاغوت القيام بالواجب معي حتى الاعتراف
أو الموت .
لم أتصور انه يوجد أُناس
بهذه القسوة أبداً. لقد استجابوا الزبانية لطلب المجرم // حنيش وبدت رحلة العذاب، وكان أول أنواع
العذاب الفلقة المعروفة. ولقد سبق لي أن تحصلت علي فلقة في الكتًاب من الشيخ، ولكن
في أبوسليم كانت الفلقة من نوع أخر لم تتوقف إلا بعد أن انفصل جزء من إصبع قدمي، وأصبحت
الدماء تسيل، هنا فقط توقفت
الفلقة. ودخل نوع ثاني من العذاب وهو الركل بالأقدام حتى تم كسر ضلوع القفص
الصدري الأيمن. بعد هذه الجلسة جاء رجل الاسعاف لوقف نزيف الدم من قدمي . وقد
قام هذا المسعف وهو في غاية السعادة برش إصبع قدمي من علبة مبيد حشرات ، وهو يقول
انه أفضل اكتشاف توصل إليه لوقف النزيف. أما بالنسبة لضلوعي المكسورة قال المسعف أنه
لا يوجد علاج لها حتى خارج السجن سوى الراحة. وبعد هذه الجلسة الساخنة تم سحبي إلي
الزنزانة مرة أخرى .
بعد يومين من الجلسة الثانية
تم اصطحابي الي التحقيق بعد وضع كيس على رأسي كالعادة حتى لا أتعرف علي المحققين. وفي
الطريق إلي مكتب التحقيق قام مرافقي بضربي بواسطة هراوة علي ضهري مم سبب لي ضمور
في عضلة الكتف التي أعاني من آلامها إلي الآن. وفي حجرة التحقيق في هذه المرة كان
التركيز علي السلاح ، وما هي الأهداف
التي تم تكليفي بها؟ .وبعدها انتقل التحقيق
إلي ما هي علاقتي بالمرحوم احمد احواس؟ .وكانت هذه الجلسة مساءً. وبنفس
طريقة الإحضار كانت عملية الارجاع الى الزنزانة ضرب وشتم واهانة. وتم إرجاعي إلى
زنزانة أخرى.
في اليــــوم التالي فُتح باب الزنزانــــة
ودُفع بشاب اسمــه خالد الفيتوري، والأستاذ محمد فنوش. كانت تهمة الاخ خالد ان عمه
ظابط فى الجيش انشق عن النظام وانضم إلي المعارضة. أما تهمة الأستاذ محمد أنه أخ
عبد البارى عمر فنوش الذي تم إعدامه في شهر رمضان الكريم بتهمة الانضمام الى جبهة
الانقاذ.
كانت
الجلسة الرابعة قبل شهر رمضان المبارك صباحاً وفي هذه الجلسة تعرضت إلى شتى أنواع
التعذيب الجسدي والنفسي. وكما هو الحال في كل مرة يتم إرجاعي إلى زنزانة مختلفة. لم
أعرف سبب ذلك ؟.
كــانت
الجلســة الخامســـة ليلاً مع اللجنة العليا للتحـــقيق بقيــادة المجرم عبد
النظام العقيد خيري خالد. هذا المجرم عاش طوال حياته في السجن لخدمة سيده .ويكفيه إخلاصاً
إن أبوه اللواء نوري خالد من رجالات العهد الملكي، مات فى السجن السياسي، وكان
المجرم خيري خالد هو آمر السجن أنذاك . وذلك حتى يرضى عنه الطاغية. ولكن كيف كانت
نهايته. لقد عاش طوال حياته وهو يرعب عباد الله، ويتفنن في أساليب التعذيب منها
استخدامه الكلاب البوليسية. أين هو الان؟.
وبعد
هذه الجلسة لم استدعى للتحقيق إلا بعد أربعة سنين .
لقد
مكثت في الزنزانة لمدة أربعة سنوات لم أخرج منها حتى للساحة، إلا يومين قبل خروجنا
من السجن .
نحن نعيش في عالم به أبعاد للزمان
والمكان. لكن في أبوسليم توقف بنا بعد المكان، وبقى بعد الزمان، واستمر هذا البعد
وحده مما يسبب العذاب النفسي العظيم. وبقيت في ثابت المكان لمدة أربع سنوات. ولم أجد
أمامي سوى الانتظار الرهيب.
رمضانيات
كانت
الشائعات تدور بأنه سوف يُفرج عنا في شهر رمضان الكريم. وكُنا ننتظر قدوم شهر
رمضان بفارغ الصبر، وجاء الشهر الكريم ونحن لا زلنا في السجن، واعتقدنا لعل
المعاملة تتحسن في هذا الشهر، ولكنها زادت قسوةً وعنفاً. ومارسى علينا حملة تجويع
لا استطيع وصف هذا النوع من العذاب إنه اشدُ ألماً من العذاب الجسدي. لقد كانت
وجبة الإفطار عبارة عن مرق في صحن صغير فقط وقطعة خبز، وفي السحور نحصل علي صحن صغير
يوم رز والأخر مكرونة ، وهذا كان نظام الأكل
طوال فترة السجن. وعند طهي الأرز أو المكرونة باللحم نعرف أنه يوجد حالة طوراي لأن
الجنود سوف يتناولون الأكل معنا.
أخي
العزيز :
بعد
انتهاء التحقيق تم إعادة توزيعنا فأصبح في كل حجرة من حجرات السجن 14 شخصاً وكانت حجرتنا بها الإخوة :
1-
المرحوم الشيخ حميده الحامي وهو كفيف
وعمره كان 67 سنة عند اعتقاله مدرس قرآن
وحاصل علي شهادة الماجستيرفي اللغة العربية، تم تعذيبه وآثار التعذيب بقت في قدماه
الى غاية وفاته ،هاجر الشيخ الى كندا بعد خروجه من السجن .
2-الشيخ
سعود المنصوري - حاصل علي شهادة بكالوريوس رحمه الله قضى 17سنة في السجن.
3-
د.سمير الاطرش -طبيب بيطري.
4-
د.حسن شوبار - رحمه الله - طبيب بشري.
5-
د.أمحمد الفورتيه طبيب بشري.
6-
الشيخ محمد البركولي - رحمه الله.
7-
المهندس عبدالله بن عبدالله - بكالوريوس هندسة.
8-
الشيخ حسين شعبان تاجر.
9-مسعود
القبلاوي - ضابط أمن.
10-
خالد أبوعلي - بكالوريوس تجارة.
11-
ناصر خليف - طالب جامعي - رحمه الله.
12-
على بن عمران - طالب جامعي .
13-
على المقدمي - مهندس.
14-
الطاهر الصادق الشريف - دكتوراه فيزياء.
وتوجد بالحجرة أسرّة من طابقين فكانت مساحة بسيطة نتحرك فيها. حيث
كانت أبعاد الحجرة 6*5متر مربع. وحصلت حادثة في العنبر الذي يحوي 14 حجرة، وذلك أن
احد الإخوة عند دخول وقت صلاة الضهر قام برفع الآذان مما أثار حفيظة زبانية
النظام، فاقتحموا الحجرة وقاموا بضرب الاخوة في تلك الحجرة، فصاح احد الإخوة فيهم وقال لهم يا يهود. هنا تم معاقبة كل العنبر برفع
جميع الاسرّة، وتم وضع الفرش على الأرض مباشرة وأصبحت الحجرة لايوجد بها مساحة
فارغة نستطيع أن نتحرك فيها إلا في وقت الصلاة حين يتم رفع الفرش للصلاة .
أخي
هذه بعض الذكريات سوف أكتب اليك عن تفاصيل بعض الأحداث.
والسلام عليكم ...