تفجرت الثورة الليبية في منتصف فبراير 2011م بشكل عفوي تلقائي استجابة
لآلام وأمال مئات الألوف من المعارضين للظلم والطغيان الذي شكله الطاغية وأزلامه
طوال أربعة عقود. حيث تصدع هيكل دولة الجاهلية العظمى في شرق ليبيا خلال أسبوعين
وتحررت معظم مدن الشرق الليبي وانتفضت العديد من مدن غرب ليبيا وخاصة طرابلس
والزاوية ومصراته والزنتان ولكنها جوبهت بالحديد والنار والقصة معروفة بتفاصيلها،
ولكن الأسئلة المحيرة التي تفرض نفسها بعد أكثر من عام ونصف هي:
ماذا كانت الأسباب الحقيقية للثورة؟ وأعني بها الأهداف الكامنة في النفوس.
هل كان مطلبنا الأساسي هو الحرية أم الفوضى؟
هل كان هدفنا الأسمى هو العدالة والمساواة أم الانتقام؟
هل كانت غايتنا المنشودة هي الديمقراطية أم المصالح الشخصية؟
ثم السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو:
هل سنحتاج إلى تصحيح مسار الثورة قريبا أم سنخرج من كبوتنا؟
منذ الأيام الأولى انطلق
العديد من الشباب الذي لا يقدر المسئولية إلى مؤسسات الحكومة موانئ ومعسكرات
ومكاتب شرطة وأخذوا في حرقها وسلب ما بها من ممتلكات، بل وصل الأمر إلى سرقة
السيارات من حظائر بعض الموانئ وهذه السيارات تخص مواطنين أو شركات خاصة. ناهيك عن
نهب وسلب ممتلكات الشركات الأجنبية العاملة في بناء ليبيا وسرقة مواد البناء وأثاث
المكاتب، فهل قامت الثورة من أجل النهب والسلب والحرق والسرقة؟
في الأسابيع التالية تحركت
مجموعات الثوار الحقيقيين إلى خطوط الجبهات في البريقة وبدأت العمليات بالتدريج في
مناطق الزنتان وكنا على اتصال بالعديد منهم من خلال الوسطاء ثم بالاتصال المباشر
بعد إمدادهم من الخارج بأجهزة اتصالات وأجهزة الرؤية الليلية ومعدات الإسعاف وفي
إحدى المرات سألت أحد الثوار عن كثرة الأعداد المتحركة على طريق البريقة رأس لانوف
فقال: هناك أقل من ألف رجل يقاتلون في الجبهات وأعداد كبيرة يحملون تموين أو
يبحثون عن غنائم من سيارات أو أسلحة. بل بدأ البعض يستولي على مخازن الأسلحة وأصبح
يتاجر في أملاك الشعب الليبي ووصل سعر البندقية آلاف الدينارات بالرغم أنها لم
تكلف بائعها مليم واحد. فهل قامت الثورة لكي نتاجر في سلاحنا وذخائرنا؟
تزامن تشكيل المجالس المحلية
لإدارة المدن مع تقدم الثوار غربا وفي نفس الفترة تشكل المجلس الوطني الانتقالي في
غياب الثوار الحقيقيين الذين كانوا على الجبهات بشكل توافقي تحول مع الأيام إلى
شكل انتقائي من طرف شخصين على الأكثر في معظم الأحيان وبذلك ازدادت الهوة بين
شباب الثورة على الجبهات والمجلس في
بنغازي والمكتب التنفيذي الذي كان يقود البلاد عن بعد. ولكي ادلل على الهوة
المعنوية يكفي أن نعرف انه من بين أعضاء المجلس والمكتب التنفيذي من كانوا خارج البلاد
أو لم يكن لهم اتصال متواصل مع بالثوار، بينما يطلب الثوار الشهادة في سبيل الله
ويكبرون ويدعون الله في كل لحظة على الجبهات. ولقد استشهد منهم عدد كبير في ظل
ظروف قتالية قاسية خلال المعارك وبدون تجهيزات مناسبة ومروا بظروف معيشية صعبة في
باقي الأوقات من نقص في التموين والإمدادات في وسط الصحراء الليبية. فهل من المعقول أن تكون القيادة في واد والثوار
في واد؟
وبعد تحقيق النصر وإعلان التحرير
فشل المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي ثم من بعده الحكومة الانتقالية في تسخير
الروح المعنوية والوطنية العالية في دفع الثوار والشعب ككل في اتجاه بناء مؤسسات
الدولة والتحول من مظاهر العسكرة إلى المظاهر المدنية السلمية. و لكن على العكس تم
استعمال الحوافز المادية من منح وهبات مادية بدون مقابل ايجابي مما حول الغالبية
إلى سبل الابتزاز تحت أي مسمى. ليس هذا فحسب بل هناك تطلع عام من جميع الناس
للحصول على فرصة للخروج من البلد بأي شكل كان للعلاج أو الدراسة أو العمل
بالسفارات ومن جميع المستويات من الطالب إلى عضو المجلس الانتقالي إلى الوزراء.
فهل حررنا ليبيا لكي نذهب للخارج ونغادرها؟ وإذا سافرنا كلنا وتركناها فمن
سيبنيها؟
ومن
المؤسف جدا أن تستمر نفس أساليب الوساطة والمحسوبية في العديد من دوائر الدولة
الجديدة من خلال تعليق عدد كبير من كبار المسئولين على الطلبات لدعمها بطرق تخالف
اللوائح أو تخرج عن اختصاصاتهم، بل تتحرك مجالس محلية وتتدخل في شؤون ليست من اختصاصها
وهي من الاختصاص الأصيل لوزارات قائمة. بل أحيانا تأتي مراسلة في نفس الموضوع من
عدة مكاتب ليس لها علاقة وفي مستويات مختلفة وكأن الجهد أو الوقت ليس له قيمة. فهل
قامت الثورة لكي تستمر ممارسات الماضي؟
أما عن الممارسات المناهضة
لأهداف الثورة في الإصلاح والتطوير فحدث ولا حرج، وفي الحقيقة يبدو أننا انتصرنا
عسكريا ولكن الثورة لم تصل إلى دواليب
الدولة ومفاصلها فعلا وساهم في هذا إلى حد كبير التسامح مع الأزلام الذي وصل إلى
مستوى التفريط في أهداف الثورة وفي التضحيات التي بذلها شبابنا في الميدان لإرضاء
بعض العوائل والقبائل. ووصل الأمر إلى بقاء العديد من أزلام الطاغية في مواقع
قيادية أو حساسة في الإدارات والسفارات والشركات في الداخل والخارج. فهل قام الشعب
بالثورة لكي يستمر الفساد؟
لقد كان فرح الليبيين عظيما
بانتخاب المؤتمر الوطني وبزوغ عصر الديمقراطية في ليبيا ولكن بعض الممارسات تدل
على أن الكثيرين منا لا زالوا يعيشون الممارسات الشعبية، فالأصل في النظام
الديمقراطي يكمن في فصل التشريع عن التنفيذ عن القضاء ولكننا نرى تدخلا مباشرا من
المشرعين في أمور الحكومة التنفيذية. بل بدا لكثير من أعضاء المؤتمر أنهم أعضاء
برلمان ونسوا الهدف الأصيل ألا وهو وضع الدستور وليس التشريع في مرحلة انتقالية
محدودة زمنيا. ناهيك عن الإجازات والحج والزيارات الخارجية وكثرة اللجان الداخلية
التي أنهكت أعضاء المؤتمر وقد تحيد بهم عن الهدف في غياب إعلام وطني مستقل وحريص
يراقب ويسدد بدون إثارة مشاكل أو قلاقل. فهل نحن نريد لليبيا دولة ديمقراطية أم سنعود
إلى ممارسات السلطة الشعبية البغيضة؟
والأمر المثير للمخاوف حاليا هو
التوافق الكبير بين أعضاء المؤتمر كتلا وأفرادا على الحكومة المؤقتة فهذا قد
يقودنا إلى دكتاتورية برلمانية في غياب معارضة وطنية داخل المؤتمر. والعملية الديمقراطية السليمة في ليبيا تحتاج
إلى كتلة وطنية قوية معارضة لتصحيح المسار ديمقراطيا كلّ ما دعت الحاجة إلى ذلك لكي
نخرج من أي كبوة بأساليب سلمية ودون اللجوء إلى تصحيح مثار الثورة بأساليب أخرى،
والكل يرى انزعاج طوائف كبيرة من الثوار من كثير من الإجراءات والترتيبات الجارية
في كثير من الأمور. فهل نستطيع أن نصحح مسارنا ديمقراطيا أم سنحتاج إلى تصحيح
المسار؟
لقد دفع الشعب الليبي الثمن من أرواح و دماء وآلام ودموع في السجون
والمهاجر وعلى كامل تراب
ليبيا الحبيبة خلال مسيرة أربعة عقود من الظلم والطغيان
ثم توج هذا بثورة مباركة عمدها بالدماء والتضامن الشعبي الكامل، أفلا يستحق هذا
الشعب الكريم نتائج أفضل؟