محمد حفاف
أستُشهد محمد مهذب حفاف في يوم مشئوم يوافق7 أبريل 1983م
حيث أعدم شنقا في ساحة كلية الهندسة بطرابلس، ويشترك في جريمة إعدامه كل من
راقبه في الكلية والقسم الداخلي وفي شوارع طرابلس خلال زياراته لأصدقائه ومن دلّ
على مكانه يوم إلقاء القبض عليه ومن حقق معه ومن عذبه في السجن ومن حكم عليه
بالإعدام ومن شارك في التنفيذ بالفعل أو القول أو التأييد.
دخلنا إلى منطقة الكلية في ذلك اليوم
فرايت مشنقة منصوبة بالساحة حوالي الساعة الثامنة والنصف صباحا وكنت اركب مع زميل
لي في الكلية فقلت له: إني ارى مشنقة. فرد علي: ربما سيستخدمون دمية. فقلت له: ضع
السيارة خلف الكلية باتجاه طريق الهضبة فهؤلاء لايمثلون فهم لا يخافون احدا.
ترجلنا ودخلنا الكلية من امام إدارة الكلية فشعرنا بتحركات غير عادية وأتت حافلة تحمل
تلاميذ مدارس وكان معهم بعض المعروفين ثوريا ومنهم عبد الحميد بيزان من طرابلس
وعدد من الشرطة العسكرية. فما كان منا إلا ان خرجنا باتجاه منطقة الهضبة الخضراء المجاورة،
وفي البيت قبيل صلاة الظهر التحق بي أحد الزملاء ليبلغني باعدام زميلي العزيز محمد
حفاف رحمه الله.
حفاف مع زملائه وعن يمينه محمد البشتي
لقد عرفت الشهيد حفاف طيلة خمس سنوات بكلية
الهندسة وكان صديقا مقربا واخا كريما احمل له أجمل الذكريات فهو من الناس الذين
يذكرونني بالله دائما، كان صادقا في قوله وشجاعا في مواقفه ولا يخشى في الحق لومة
لائم. كان يحافظ على الصلاة في وقتها وفي جماعة قدر المستطاع وكان كثير الدعاء عقب
صلاته ويرفع ذراعيه للسماء وفي العادة كان يؤم المصلين من الطلبة في بيوت الطلبة.
الشهيدان محمد حفاف ورشيد كعبار رفقاء على طريق الحق
كان محمد محاورا مقتدرا وكثيرا ما كان يحاور زوار
الكلية من أمثال الصادق النيهوم وابراهيم الغويل وأبرز المتحدثين باسم الطاغية في
الكلية ومنهم سعيد راشد ومفتاح اعزوزه. في
سنة 1973 م شارك في ندوة عن القومية العربية والإسلام وقدم فيها محاضرة عن الاقتصاد
الإسلامي.
أمام إدارة الكلية وعلى بعد بضعة أمتار من
موقع إعدامه
كانت مشكلة حفاف مع مقولة " من تحزب
خان" وكثيرا ما كان يسال : هل هذه آية أم حديث شريف لكي تصبح قانونا يحكم
الناس. لم تكن لحفاف مشكلة غير هذه مع القذافي، فهو في الثانوية كان ناصريا ويردد
مقولات عبد الناصر ولكن بعد حرب 67 وهزيمة العرب وصدور كتاب "وتحطمت الطائرات
عند الفجر" الذي اطلع عليه، قرر العودة إلى التيار الإسلامي وانضم إلى حزب
التحرير بعد اطلاعه على كتاب نظام الحكم في الإسلام لتقي الدين النبهاني وبدا يدعو
الناس لأفكاره وخاصة بين الطلاب.
مجموعة من سجناء الرأي داخل سجن باب بن غشير
من اليمين محمد الصادق الترهوني، لطفي
الحواسي، عريبي يوسف، عبد الرحمن الساعدي، عجيلي عبد الرحمن الازهري، صالح عمرو
القصبي، محمد حفاف وعلي محمد كاجيجي
دخل الشهيد حفاف السجن في ابريل 1973م بعد خطاب
زوارة مع كوكبة من النشطاء سياسيا في ليبيا بتهمة الإنتماء إلى حزب سياسي وتعرض
لصنوف من أنواع التعذيب من الضرب والصعق بالكهرباء والغمر في الماء وتمت محاكمته
عدة مرات من اعضاء اللجان الثورية لاحقا وصدر بحقه حكم بالإعدام وبقى في السجن
لمدة عشر سنوات. انتقل خلالها بين سجن باب بن غشير وسجن الجديدة عام 1977م وفي نفس
الفترة دخل السجن اثنان من إخوته معه وكان أبوهم صابرا محتسبا رحمه الله.
نفس المجموعة التي بالصورة السابقة برفقة
صالح النعاس الواقف في أقصى يسار الصورة
سجن باب بن غشير
داخل سجن الجديدة في أغسطس سنة 1976م
علي كاجيجي، صالح القصبي الشرطي الطيف،
عثمان صالح الهوني، عجيلي الازهري،عبد الحمبد المحيشي،محمد الترهوني،عبدالقادر
الهادي(توفى داخل السجن)، محمد حفاف وفرج بالخيرات العجيلي
ثم نقل داخل سجن باب بن غشير ضحى 6ابريل 1983 إلى
حجرة أخرى فيها مجموعة من حزب التحرير حُكم عليها بالإعدام في ليلة 6 ابريل وهم
سبعة عشر رجلا . حفاف كان رجلا مهذبا و على خلق كريم لم يحمل سلاحا ولم
يؤذ احد في حياته ومشكلته الوحيدة أنه كان يطالب بالحرية السياسية ويحلم بقيام
دولة إسلامية.
في يوم إعدامه جاؤوا به لمقابلة القذافي قبل
السابعة صباحا في مكان معروف في مكتب الطاغية والتقى به وجها لوجه فقال له
الطاغية: ألم تتب بعد؟ فرد عليه: من منا يخالف كتاب الله كي يتوب؟ فقال لهم :
خذوه. اتوا به إلى مقر مثابة اللجنة الثورية بكلية الهندسة حيث اجتمع اعضاء اللجنة
الثورية، وقرأ سعيد راشد الحكم، ثم طلب من علي فارس ان يتلو البيان في الساحة
فاعتذر متحججا ببرد ألم به فتم تكليف البحباح ليتلو البيان قبل تنفيذ الحكم. خرجوا بعد ذلك بأخينا محمد حفاف إلى ساحة الكلية
حيث تجمهر عدد كبير من طلاب المدارس وبعض طلاب واساتذة الكلية تحيط بهم الشرطة
العسكرية التي كانت تمنع الناس من مغادرة المكان.
في
الساحة وقف حفاف وحيدا ونظر يمنة ونظر يسرة لعله يرى شخص يعرفه فهو طالما جال في
هذه الساحة فلم ير سوى وجوه الغربان وهم يصيحون ككلاب مسعورة، فبدا عليه التوتر
ونزع نظارته من فوق عينيه ورماها على الارض فهو يعرف انه لن يحتاج لها بعد هذا
اليوم، ثم نزع ساعته وألقى بها فهو يعرف ان الوقت لن يهمه بعد لحظات.
وقف
في الساحة مسالما كعادته واقفا كالنخيل لا يهتز ولا ينحني وأنفه مرفوع في السماء.
وقام احدهم بوضع حبل المشنقة في عنقه والجموع من حوله من كلاب الدم تهتف لسيدها: الفاتح،
الفاتح، وهم يتقافزون بالساحة تماما مثل ما سيفعلون على نار جهنم بإذن الله. وعلينا
أن نتذكر أن بعض الذين شاركوا في القبض على السياسيين في سنة 1973م والذين شاركوا
واحتفلوا بعملية إعدام حفاف الآن أساتذة بالجامعات وقد يصل بعضهم للوزارات.
شباب واعد وطموح
فارق حفاف الحياة وحيدا ولم يك معه لا
نصير ولا رفيق ولا قريب غير ملائكة الرحمن التي جاءت لتزفه إلى الجنة بإذن الله.
وهنا راق لبعض المرضى ومنهم المدعو المشاي لكمه في بطنه وهو معلق في حبل المشنقة
حتى تمزق قميصه، إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كان حفاف الفائز الوحيد في ذلك
اليوم فنال الشهادة بينما يحمل كل من حضر وشاهد نصيبه في الجريمة إلى يوم القيامة،
وكل من فرح وهلل في ذلك اليوم هو نادم اشد الندم حيا كان او ميتا والعياذ بالله.
ولا أحد يعلم حتى الآن أين دفن أو أين وُضع جسده الطاهر.
ينتمي محمد حفاف لاسرة مجاهدة تمتد اصولها في
التاريخ إلى مكة المكرمة فشجرة العائلة تنتهي بسيدنا عمر بن الخطاب، ولد محمد في
غريان بالقواسم سنة 1949م وترعرع بين جبالها ودرس المرحلة الابتدائية في غريان ثم
رحل إلى الزاوية حيث اكمل دراسته في القسم الداخلي بالزاوية وفيها تعرف على استاذ
فلسطيني دعاه للانضمام لحزب التحرير.
كان
محمد حفاف جديا ولا يضيع وقتا ولا جهدا، حريص على الوقت وقضيته الكبرى هي الدعوة
إلى الله ولحزب التحرير والتبشير بقيام دولة الخلافة، واذكر اثناء فترة التدريب العسكري بعيد انقلاب
سبتمبر المشئوم انه كان ياتي للتدريب مبكرا في صباح كل يوم وقال لي ذات يوم: انا
ابحث عنها في السماء وأتتني إلى الأرض فهل اتركها. لقد كان يمني نفسه بالجهاد في
سبيل الله واغلى ما يتمنى ان يدخله الله
الجنة وهكذا يكون كل من يحمل هم رسالة.
خلال
فترة دراسته بالكلية كان مُراقبا من الجهات الأمنية وقد بلغنا بواسطة أحد ضباط
الأمن الداخلي أن مجموعة من الطلبة سوف يتم القبض عليهم وذلك قبل خطاب زوارة 1973م، واذكر أننا كنا في
حلقة نقاش داخل حجرة حفاف بالقسم الداخلي بعيد العصر والحجرة مغلقة وإذا بأحدهم
يحاول فتح الباب عنوة من الخارج وكاد أن يكسر الباب لولا مرور مجموعة من الطلبة
ففر من أمامهم. سألت حفاف عن هذا الشخص فقال: أنه الفيتوري الشلفاح، لم اهتم
بالأمر فأنا أعرفه طالبا معي في نفس السنة، ولكن عند ما أُلقي القبض على بعض
المجموعة واجههم ضابط التحقيق بتقارير قال أنها من الملازم الفيتورى الشلفاح تفيد
بتورطهم في جماعة الإخوان المسلمين المحظورة.
وهكذا
كما ترون أخواتي و إخوتي الكرام مات محمد حفاف شنقا بدون جريمة يرتكبها إلا أن
يقول: كلنا بشر ونستحق أن نكون أحرارا نختار لحياتنا ما نشاء وننضم لمن نختار؛
ومثله مات الكثيرون سواء على أعواد المشانق أو في غرف مغلقة أو في دروب المهاجر
وبعدة طرق، وتوزع دم كل واحد فيهم بين الواشي من الزملاء والجيران والمراقب من
البوليس السري والدال على مكانه وشرطي القبض وشرطي التحقيق والسجان ورجال التعذيب
وخدام المشانق والمتاجرين بها للحصول على بعثات ومزايا وبين المشاركين والعازفين
والهتيفة من أعضاء اللجان الثورية كلهم له نصيب في الجريمة. فهل لأحد من هؤلاء الذين شاركوا في الجريمة
توبة؟ ومن يقبل التوبة من رجل يداه ملطختان بدماء الأبرياء؟ ومهما انشق على الأرض
أو حتى في السماء فهو يبقى قاتلا لبريء.