Tuesday, October 1, 2013

الشرعية .. وصندوق الاقتراع


لقد كنت أحسب أننا لسنا بحاجة أصلا لطرح مفهوم الشرعية على النظر والتساؤل، من جهة أن هذا المفهوم أصبح مكوناً أصيلاً من مكونات مفهوم الدولة الديمقراطية، التي استقرت تجارب الأمم المتطورة في سياقها على بضعة معايير أو أفكار جوهرية أساسية، لا تقوم أي ديمقراطية بدونها... هذه الأفكار ألخصها في التالية:
1)    التسليم أو الاعتراف بأن أفراد أي مجتمع، مهما صغر أو كبر، لا يمكن أن يتفقوا جميعهم على رأي واحد، أو تجمع بينهم مصالح وأهداف واحدة، وأنهم بحكم طبيعتهم كبشر لابد مختلفون في الرأي والتوجه والمصلحة والغاية.
2)    أن حياة هؤلاء الأفراد في مجتمع واحد، بطريقة سلمية، تحقق لهم جميعاً، مهما اختلفت آراؤهم ومصالحهم الفردية، حداً أدنى من الحقوق، وتضمن لهم حداً متوافقا عليه من الحريات، لا يمكن أن تستقيم إلا باعتراف كل مواطن بحق الآخرين في الاختلاف معه في الرأي والتوجه والهدف، وحقهم في التعبير عن هذا الاختلاف بطريقة سلمية قانونية، لا يسمح فيها لأحد أو لطرف منهم بالتعدي على حقوق الآخرين وحرياتهم، ومحاولة فرض رأيه عليهم بالقوة.
3)    أن المعيار الوحيد الذي يمكن أن يعتمد عليه في حسم المواقف والقرارات التي تهم المجتمع كله، هو معيار تحكيم إرادة الناس، وتغليب الرأي أو الموقف الذي تؤيده أغلبية منهم.
4)    أن تجارب الدول والمجتمعات التي خاضتها في اتجاه تطوير آليات الممارسة الديمقراطية انتهت إلى أن المعيار الوحيد الذي يمكن الوثوق به هو تعبير المواطنين عن آرائهم واختياراتهم من خلال بطاقات أو أوراق توضع في صندوق يسمى (صندوق الاقتراع)، في عملية إجرائية يجب أن تحاط بكل شروط السرية والنزاهة والشفافية، ثم معرفة الرأي أو الموقف الذي تؤيده الأغلبية من خلال حساب عدد الأصوات التي تؤيد كل موقف.
5)    أن فوز الرأي الذي تؤيده الأغلبية، لا يعني إلغاء الأقلية أو حرمانها من ممارسة وجودها السياسي، من خلال المشاركة في صناعة الرأي العام والقرار السياسي، من مواقع المعارضة والرقابة، والتهيؤ للتنافس في العمليات الانتخابية الدورية، لاختبار قدرتها على كسب أغلبية من المواطنين لصفها وموقفها..
لقد كنت أحسب أن هذه المفاهيم قد ترسخت وباتت أساسية وجوهرية في مفهوم الديمقراطية، ولكني أخذت أشعر بأننا، في بلادنا التي تحاول ممارسة أولى خطواتها في هذا الاتجاه، ما زلنا بحاجة شديدة لمراجعة هذا المفهوم وشرحه والتجادل حوله، وذلك عندما نسمع من يجرؤ على السخرية من (صندوق الاقتراع)، ويجرؤ على القول بأن الشرعية ليست في (الصندوق)، وإنما هي شرعية الشعب وما إلى ذلك... ولقد أسفت أيما أسف على سماع من يهزأ بتلك الممارسة التي افتخر وتباهى بها كثيرون منا، وهي غمس أصابعنا في الحبر الدال على إنجاز عملية التصويت أو الاقتراع، فأخذوا يعبرون عن استهزائهم واستخفافهم بتلك العملية، والتعبير عن ندمهم على ممارستها. وقد بلغ الأمر ببعضهم أن وصف عملية الاقتراع بأنها مجرد (وريقات توضع في صندوق بلاستيك).
ولقد أسفت لذلك أشد الأسف، فعلى الرغم من أن الشكل الظاهر للعملية هو بالفعل كذلك، مجرد وريقات توضع في صندوق من خشب أو بلاستيك، ولكن معنى العملية ومضمونها أكبر من ذلك بكثير، من جهة أن تلك الوريقات التي توضع في الصندوق تعبر عن رأي مواطن، وتأخذ احترامها وقدسيتها ومعناها القانوني من ذلك، وأن كل وريقة منها تمثل مواطناً كامل الأهلية والمواطنة، وتمثل رأي هذا المواطن في المسألة التي يدعى لإبداء الرأي فيها: استفتاء عام، أو انتخاب ممثلين في البرلمان ...إلخ... وبالمثل ذلك الصندوق الذي قد يكون مصنوعاً من أردأ أنواع الخشب، أو من أبسط مكونات البلاستيك، لا يأخذ قيمته من قيمة المادة التي صنع منها، ولكن من قيمة الدور الذي يلعبه في إنجاز عملية الاقتراع، من جهة أنه إناء يحتضن تلك الوريقات التي تمثل المواطنين، ويحفظها من أي تلاعب بها، بأي شكل من أشكال التلاعب: السرقة، أو التزوير وما إلى ذلك..
ولقد انتهت الدول العريقة في ممارسة الديمقراطية إلى القناعة بأن هذا الأسلوب هو الأسلوب الوحيد الكفيل بالتعبير الدقيق والصحيح عن آراء الناس ومواقفهم، وأنه الآلية الوحيدة لحسم الاختيارات والقرارات، ومن ثم فهو الآلية الوحيد لتجسيد الشرعية، وأن أي قرار أو مؤسسة لا يكتسب شرعيته إلا من خلال آلية الاقتراع السري الحر، وبعد حساب نسبتي الأغلبية والأقلية.. ثم القبول بالنتيجة التي تسفر عنها عملية حساب الأصوات الصحيحة، مهما كان الفرق بين الأغلبية والأقلية ضئيلاً أو صغيراً..
وإني أجد في هذه النغمة التي يتحدث بها البعض عن (شرعية الصندوق)، استخفافاً واستهزاء، خطراً بالغاً على آمالنا في التمكن من إرساء دعائم مجتمع ديمقراطي، نختلف في إطاره في آرائنا وتوجهاتنا، وربما مصالحنا وأهدافنا، ولكننا نقبل جميعنا بالاحتكام إلى إرادة الناس، التي لا سبيل للتعبير عنها بدقة وشفافية، وبحساب الأرقام الدقيق، إلا من خلال أسلوب الاقتراع، المبني على التعبير عن مواقف الناس وآرائهم من خلال أوراق، تملأً بسرية تامة، وتوضع بمنتهى الاحترام، في صندوق يعد لذلك الغرض، ثم تحسب الأصوات المعبر عنها من خلال تلك الأوراق حساباً دقيقاً وشفافاً، تحت مراقبة شديدة من كل الأطراف ذات العلاقة، وتذاع مباشرة في وسائل الإعلام على الملأ..
ليس لنا من أمل في أي مستقبل ديمقراطي، ما لم نتوافق على القبول بالآلية الديمقراطية لفرز المواقف والآراء، وحسم الاختيارات والقرارات، باعتماد أسلوب الاقتراع السري، والقبول بما تسفر عنه هذه العملية من نتائج...
أما ما يسمى شرعية الشارع، فهو تعبير هلامي لا معنى له، فمن حق المواطنين أن يعبروا عن آرائهم بمختلف وسائل التعبير، التي من بينها الخروج إلى الشارع في شكل تظاهرات أو مسيرات سلمية. ولكن حين يتعلق الأمر بالحاجة إلى حسم الموقف، وتبين أي الموقفين أو أي المواقف المطروحة على الساحة السياسية هو الذي يحظى بتأييد الأغلبية، فإننا سوف نحتاج إلى وسيلة حساب دقيقة ومضبوطة، يمكن الوثوق في نتائجها. وقد قلنا إن تاريخ المسيرة نحو الديمقراطية لم يجد في نهاية المطاف وسيلة أفضل ولا أقدر على حسم الاختلاف إلا وسيلة الاقتراع من خلال الصندوق.
أعرف وأقدر أن ما يدفع كثيرين إلى الجنوح إلى هذا الموقف المتطرف ضد (الصندوق) وضد (شرعية الصندوق) كما يسمونها، هو التذمر وخيبة الأمل من النتيجة التي أسفرت عنها العمليات الانتخابية التي تمت في بلادنا في السنتين الماضيتين: انتخابات مجالس محلية، ثم انتخابات المؤتمر الوطني العام؛ إذ شاهد الناس كيف سمحت تلك العملية بوصول أناس ثبت من التجربة أنهم غير مؤهلين، وليسوا على مستوى المسؤولية، ولكني أقول إن هذا يجدر ألا يجعلنا نتنكر للعملية الديمقراطية نفسها، بل يجدر أن يحفزنا على أن نجهز أنفسنا كي تكون اختياراتنا في التجارب القادمة أفضل من سابقتها، فندقق كثيراً قبل أن نضع اسم من نختاره في الورقة التي سوف نودعها (الصندوق)، ونتحرى عن ذلك الاسم حتى نعرفه معرفة مباشرة ودقيقة، تمكننا من الحكم على كفاءته وجدارته بتحمل المسؤولية...

e-mail: fannushyounis@yahoo.com               0925121949

No comments:

Post a Comment