ولد السيد محمد
ادريس السنوسي رحمه الله في 12 مارس سنة 1890م في منطقة الجبل الاخضر في أسرة كان
همها الاول والاخير الدعوة إلى الله ونشر الاسلام وتعليم الناس مكارم الاخلاق. كان
أبوه السيد المهدي السنوسي عالما وداعية للإسلام ومجاهدا وشيخ الحركة السنوسية،
وكان جده السيد محمد بن علي السنوسي عالما جليلا وداعية إلى الله وهو مؤسس الحركة
السنوسية وإمامها الأكبر.
وتعتبر
الحركة السنوسية أفضل حركة إصلاحية جامعة في العالم الإسلامي فقد جمعت بين الدعوة
إلى الله والعودة لدين الإسلام وتنمية قدرات أفراد المجتمع من خلال نشاطها
الاصلاحي الذي تعدى كل أنواع الاصلاح الديني والتاهيل المهني وبناء بيئة إسلامية
صالحة ليقود الجهاد ضد الغزاة المعتدين على ديار الاسلام في ربوع ليبيا ووسط
الصحراء الكبرى وبالتالي دخل أتباع هذه الحركة في قتال الفرنسيين في الجنوب
والطليان في ليبيا كما اشتبكوا مع الانجليز على حدود مصر فقضيتهم لم تكن اقليمية
بل كانت اسلامية إنسانية جامعة.
نشأ السيد محمد
ادريس على التقى والصلاح في زوايا الحلركة السنوسية وبين كبار علمائها فترعرع على
حب الله وحب رسوله وحب الإسلام وحب المسلمين بين حلق العلم الشرعي ومجالس الذكر
وقوافل الدعاة في حياة بدوية بسيطة ولكنها غنية بمعاني الكرم والإيثار وحب
الصالحين في ربوع برقة وواحاتها في الجغبوب والكفرة مما أبعده عن التعلق بالدنيا
الزائلة ورموزها الزائفة في مظاهر الحياة الغربية التي سحرت الكثيرين من أبناء
زمانه وزماننا.
بدأ تعليمه في
البيت بين أفراد أسرته طفلا صغيرا ثم تعلم العربية وحفظ القرآن الكريم في كتاتيب
الحركة وزواياها بمدينة الكفرة. وتشاء الاقدار ان يفقد أباه في سن مبكرة حين توفى
والده سنة 1902م وتولى الوصاية عليه إبن عمه السيد أحمد الشريف الذي تولى قيادة
الحركة السنوسية نيابة عنه حيث كان السيد محمد ادريس هو الوريث الشرعي لزعامة
الحركة السنوسية. واستمر السيد أحمد الشريف في هذا الموقع فقد آثر السيد ادريس ان
يبقيه احتراما وتقديرا لدوره في الحركة وفي الجهاد ضد الطليان.
بروز الادريس على
الساحة السياسية في ليبيا
كان للسيد محمد
ادريس مكانة مرموقة في برقة خاصة وبين اتباع الحركة السنوسية في جميع الزوايا
المنتشرة في افريقيا ولكن دوره على الصعيد الوطني لم يتبلور إلا بعد مؤتمر غريان
الذي انعقد في نوفمبر 1920م وحضره زعماء
الحركة الوطنية في إقليمي طرابلس وبرقة. وأصدروا القرار التالي:
إن الحالة التي آلت
إليها البلاد لا يمكن تحسينها إلا بقيام حكومة قادرة ومؤسسة على ما يحقق الشرع
الاسلامي من الاصول وبزعامة رجل مسلم، منتخب من الأمة، لا يعزل إلا بحجة شرعية
وإقرار مجلس النوابن وتكون له السلطة الدينية والمدنية والعسكرية بموجب دستور تقره
الأمة بواسطة نوابها، وان يشمل جميع البلاد بحدودها المعروفة.
وانبثقت عن المؤتمر
هيئة الإصلاح المركزية التي بايعت السيد
ادريس السنوسي أميرا على قطري طرابلس وبرقة سنة 1922م في اجتماعها في مدينة سرت.
وقبل السيد ادريس السنوسي هذه البيعة التي وضعته في مواجهة ايطاليا كأول زعيم وطني
ليبي في التاريخ الحديث يتم اختياره من قيادات الجهاد الليبي، فبدأت الضغوط
الايطالية عليه مما اضطره للهجرة إلى مصر التي كانت تحت حكم الانجليز آنذاك. وهذا
الحدث التاريخي يدلل على النضج السياسي لقيادات المجتمع الليبي واستيعابها لفكرة
تقديم الاصلح من بين أبناء ليبيا لقيادة نضال هذا الشعب من اجل الاستقلال، كما
تؤكد على اهمية التوافق الوطني عند الازمات. ومن مصر قاد الادريس مشروع استقلال
ليبيا عبر مراحل مختلفة توجت بدخول جيش التحرير الليبي الحرب العالمية الثانية إلى
جانب قوات الحلفاء ومن ثم الدخول في مفاوضات الاستقلال في اروقة الامم المتحدة.
وبإعلان استقلال
ليبيا يوم 24 ديسمبر 1951م أصبح محمد ادريس السنوسي ملك المملكة الليبية المتحدة
والتي كانت تضم ثلاث ولايات؛ ألا و هي ولاية طرابلس، وولاية برقة، وولاية فزان.
وعرفت ليبيا خلال عهد الملك ادريس نهضة غير مسبوقة وتحولت من دولة يخيم على شعبها
الجهل والفقر والمرض إلى دولة تحوي خامس جامعة في العالم العربي وهي الجامعة
الليبية ومقرها بنغازي وطرابلس واستطاعت أن تقضي على بعض الامراض والأوبئة التي
كانت منتشرة فيها وانطلقت في إعادة بناء المناطق التي طالتها آثار الحرب العالمية
وحرب التحرير. وعرف التاريخ لاول مرة دولة ليبيا الحرة المستقلة واصبحت عضوا فاعلا
في منظمة الامم المتحدة والجامعة العربية.
وفي سنة 1963م
وبناء على اقتراح من الحكومة الاتحادية وموافقة المجالس التشريعية الثلاث في الولايات
وموافقة مجلسي الشيوخ والنواب تم تعديل الدستور لتصبح ليبيا دولة موحدة تحت اسم
المملكة الليبية. وهذا القرار زاد من تحسين الحكومة وقلل المصاريف وقرب المسافات
بين سكان الاقاليم الجغرافية الثلاث. وتزامن هذا مع تصدير أول شحنات للنفط
وبالتالي بدأت النهضة العمرانية بمشروع ادريس للاسكان الذي شمل جميع المدن
اتلليبية ثم جاء مشروع المدينة الجامعية في بنغازي وطرابلس ومشروع المدينة
الرياضية في طرابلس وبنغازي وحضي التعليم باكبر نصيب في ميزانية الدولة لمعظم
السنوات حرصا على بناء جيل متعلم قادر على تولي المناصب العليا في الدولة.
ملامح شخصية الملك
إدريس
لقد تعرضت شخصسة
الملك إدريس لحملة تشويه مغرضة خلال أربعة عقود لرسم صورة مغايرة للحقيقة ولتبرير
الخيانة العظمى التي قام بها عدد كبير من ضباط الجيش ومن دار في فلكهم من اصحاب
المصالح لكن تاريخ الإدريس ونضاله ضد الاستعمار وسعيه من أجل بناء ليبيا والنجاح
الكبير الذي تحقق في عهده يبقى خير دليل على سيرته العطرة وتاريخه النبيل وحبه
لشعبه وحرصه على وطنه.
كان الملك شديد
الترفع عن ماديات الحياة ومن مظاهر الترف وحب الظهور والشهرة أو تسليط الأضواء على
ما يقدم من أعمال وخدمات جليلة لشعبه ووطنه وذلك بسبب تجرده وتفانيه في العقيدة
الدينية وحرصه على أداء فرائضها وكراهيته للأبهة الزائفة والرسميات الفارغة. كان
زاهدا في الدنيا مقبلا على طاعة الله ويعتبر كل ما يقدم من أعمال من واجبات
العبادة والتقرب إلى الله.
كان يرى في الحضارة
الغربية المادية التي حاول الايطاليون إدخالها إلى ليبيا حسب ما يدعون وسيلة لجعل
الشعب الليبي عبيدا للظروف المادية ولهذا حاربها ودعى لمحاربتها. لانها في تصوره
تبالغ في إعطاء الاهمية لمظاهر الحياة الخارجية وتستهين بالنمو الروحي والديني
للإنسان. فالملك كان يرى أنه حينما تسود الروح الاسلامية في البلاد ينعم الشعب
بالسلام والرضا من كل جانب.
كان يثق في ولاء
شعبه ثقة عمياء ولا يتخذ أية إجراءات أمنية لحماية أمنه الشخصي، ولم يرافقه أي حرس
خاص أثناء رحلاته. كما كان يأتمن وزراءه في أداء واجباتهم على أكمل وجه ولكنهم
خذلوه في أحيان كثيرة. وبالرغم من ذلك تحققت إنجازات كبيرة وكثيرة في عهده، بل إن
كل المشاريع الناجحة بعده كانت من مبادرات من الملك شخصيا وتم تخطيطها خلال عهده.
كان نزيها في شخصه
وحرص على تنزيه عائلته من أحفاد السنوسي الكبير عن أخطار المحاباة العائلية التي
كثيرا ما تفسد الانظمة الملكية عندما استثناهم من العمل في الدولة باي شكل من
الاشكال وحظر عليهم ألقاب الامراء وأبعدهم عن الحياة السياسية لدرجة قد تكون حرمت
ليبيا من دورهم في الحياة السياسية فهم يبقون نموذج لافضل العائلات الليبية عطاء
للوطن في مجالات العلم والعمل والجهاد والدعوة إلى الله.
كان الملك حريصا
على المباديء الدستورية فهو لم يحد عنها في أي وقت وتمادى في إطلاق الحريات
الديمقراطية بالذات ومن نواح كثيرة كان متقدما بمراحل عن غيره من قادة الشعوب
العربية والاسلامية. وهذا يتضح جليا بشكل خاص في موقفه من قضية حرية المراة في ليبيا.
فقد كانت ليبيا أول دولة إسلامية تمنح المرأة حق التصويت في الانتخابات العامة
وتولي المناصب في الدولة واتيحت لها أعلى مستويات التعليم.
كان مظهره العام
مهيبا ونظرته كانت مستقيمة دائما، ويظهر منتصب القامة يجلله وقار الشيخوخة وعلى
وجهه بهجة الصلاح والتقوى. بقيت مداركه بصحة جيدة رغم تقدمه في السن ويتمتع بذاكرة
قوية. وكان يرتدي الزي العربي الليبي وكانت تبدو عليه هيئة الشيخ الجليل والرجل
الصالح.
كان يتمنى لليبيا
ان تكون واحة للسلام في المنطقة فهو كان يحلم بان تكون ليبيا في العالم الاسلامي
مثل سويسرا في العالم الغربي. كان بسيطا في معيشته في بيته ومع اسرته ولم يتعود
حياة القصور والبذخ وكان يحب الطبيعة والجياد العربية الاصيلة وحياة الارياف
والصحاري كما كان يحب لقاء اصدقائه القدامى وكان يكرم ابناء المجاهدين ويتولى رعايتهم
بنفسه في بعض الحالات.
كان الإدريس زاهدا
في الحكم لدرجة انه قدم النتازل عن العرش عدة مرات في محاولة لنقل السلطة لولي
العهد وفي كل مرة كان الناس يصرون على عودته عن قراره و آخر مرة كانت قبيل
الانقلاب المشئوم حيث قدم تنازله عن العرش للشيخ عبد الحميد العبار يوم 4 أغسطس
1969م والذي كان بدوره سيقدمه لمجلس الأمة في 2 سبيمبر 1969م، ولكن الدوائر
الأجنبية تدخلت في اللحظات الاخيرة لإخراج مسرحية الانقلاب المشئوم وبذلك اسدل
الستار على عهد زاهر يجدر بالليبيين والعرب عموما ان يعتزوا به، فتاريخ ليبيا لم
يشهد أروع من العصر الذهبي للسنوسية والكفاح البطولي ضد الاستعمار وضد الفقر
والجهل والمرض بعد الاستقلال.
ولمن أراد ان يعرف
المزيد عن هذا الملك الصالح وتاريخه وسيرته انصحه بالرجوع إلى كتاب "الملك
إدريس" وهو من تاليف إيرك دي كاندول وترجمة محمد حسين القزيري؛ فهذا الكتاب
كان المرجع الاساسي لهذا المقال.
No comments:
Post a Comment