الإرهاب في حقيقته هو عبارة عن رصيد من الذكريات المرعبة الناتجة عن استخدام العنف في فرض أراء أو قيم أو أنماط تصرف تتحول مع مرور الزمن و تكرارها إلى حالة نفسية تؤرق على الإنسان حياته. و المثل الليبي يقول" الملدوغ يخاف من الحبل" فصورة الثعبان في ذاكرته تجعله يرتعش من رؤية حبل قد تكون فيه نجاته من الغرق. و أنا أرى أن تفشي العنف في حياة الأسرة في مجتمعنا و خاصة في تربية الأطفال حيث اعتمدت الفلقة كوسيلة تعليمية في كتاتيبنا، و في معاملة المرأة بقسوة يؤسس لحالة الإحباط التي تهيأ المرء لتقبل الحياة في ظل الإرهاب في ذل و انكسار. و قد مر الشعب الليبي بمحطات تاريخية زرعت جذورا للإرهاب في مجتمعنا عبر العصور و نرجو من الله أن نكون على أبواب الشفاء منها بفعل ثورة فبراير التي ستفجر طاقات التغيير في نفوسنا.
الجهل و تجبر الولاة
مرت بلادنا الحبيبة بفترة تعيسة استمرت لعدة قرون من الحكم التركي كان هم الحكام فيها جمع الضرائب و إذلال الشعب و لكي يتسنى لهم هذا أهملوا التعليم بجميع أشكاله و أفرطوا في عقاب من يناقش دورهم أو يحتج عليه فوصل الأمر إلى نفي قبائل ليبية بالكامل عن أرض الوطن. و ساعدهم في هذا ظروف الجهل و الفقر و تفشي الأمراض التي أذلت الإنسان الليبي، و أصبح المثل يقول" حط راسك بين الرؤوس و قول يا قطاع الرؤوس". و تكونت فئات في المجتمع كان همها النجاة و المصالح الشخصية و لو على جثث الآخرين، و هم رجال الوالي و رجال شرطته و حراسه.
عملاء المستعمر الايطالي
بعد نزول القوات الايطالية إلى ليبيا بفترة وجيزة لا تزيد عن ستة أشهر تطوع عدد من الليبيين في خدمة الجيش الايطالي و قاتلوا إلى جانبه ضد المجاهدين الليبيين بضراوة، بعضهم فعل هذا بحجة الحاجة و بعضهم كان يتطلع إلى دور أفضل و حياة أفضل رفقة الحكام الايطاليين. و تفنن هؤلاء في الانتقام من أهالي المجاهدين و قراهم بل و شارك بعضهم في تعذيب سجناء العقيلة و البريقة، و قام بعضهم بمهام شنق المجاهدين الذين حكمت عليهم السلطات الايطالية بالإعدام شنقا. و بهذا تكونت مجموعات من الليبيين الذين أصبحوا يمارسون الإرهاب على الشعب الليبي. و دخل بعضهم في حراسة السجون و في البوليس السري و بالتالي أصبحوا يعملون على حماية أنفسهم من خلال حماية المستعمر الايطالي.
البوليس السري
بعد الحرب العالمية و في أيام الإدارة البريطانية قام الانجليز بتدريب أفراد شرطة من الليبيين، و هنا كذلك التحق بهم الذين تعودوا على خدمة المستعمر و استمروا في نفس الأساليب من ضرب و تهديد، ثم انضموا كنواة للبوليس في عهد المملكة و شاركوا في عملية تزوير الانتخابات و قمع المتظاهرين. و استمرت أجهزة البوليس السري بنفس القيادات التي تكونت مع الانجليز و بخبرات من العهد الايطالي. و بعد انقلاب 1969م بدأ بعض ضباط الجيش في فضح أفراد البوليس السري و لكن في خلال يومين أتت تعليمات بالكف عن هذا، و استمر جهاز البوليس السري يعمل بنفس قياداته القديمة حتى ثورة فبراير. و هذا الجهاز هو الجهاز الحكومي الوحيد في ليبيا الذي استمرت قيادته و أفراده خلال كل المراحل السابقة، و نحتاج لدراسة خاصة بهذا الأمر في المرحلة القادمة.
تواصل الأجيال
يتضح مما سبق تكون أجيال من الإرهابيين يتبادلون الخبرة و النصيحة، و هنا يحضرني موقف حدث في مصراتة في العام الثاني بعد الانقلاب. فبينما العقيد ألقذافي كان يسير في مصراتة على قدميه مر على مجموعة من المسنين يلعبون لعبة الخربقة على الأرض، سلم عليهم و دار حديث بينه و بين احدهم و يدعى مفتاح من المنطقة الوسطى كان يعمل جلادا في معتقل البريقة ويجلد المجاهدين بالأسلاك الشائكة أي الحبيلة أو الشبردق حتى يسيل الدم من ظهورهم. فقال مفتاح للقذافي: اسمع يا معمر إذا كنت تريد الليبيين عند ما يسمعوا اسمك يذكر يتجمد الدم في عروقهم عليك بإعدام بعض الأبرياء، لأنك لو أعدمت من فعل شيئا فسوف يقدسونه كعمر المختار.
ضحك معمر و تركهم بعد هذا الحديث علما بأن مفتاح هذا قبح الله سعيه كان يعمل غفيرا في القسم الداخلي للمدرسة الثانوية بمصراتة و هذا هو سبب معرفته الوطيدة بمعمر.
الثورة الثقافية 1973م
في خطاب زوارة الشهير دعا ألقذافي إلى التخلص من جميع الحزبيين و وضعهم في السجون كخطوة استباقية لأي دور قد يقومون به في معارضة نظامه. و خرجت المسيرات الغوغائية ترفع شعارات
" دوس على الرجعي و الخاين و اللي ما عنده مبادىء"،
و تم إلقاء القبض على حوالي 300 مواطن من أهل الفكر و الناشطين سياسيا و أودعوا في سجن باب بن غشير أو الحصان الأبيض، الذي تحول اسودا من ظلم إدارة السجون. وشمل هذا الإجراء كل قيادات الأحزاب أو التوجهات السياسية في ليبيا من محامين و سياسيين و كتاب و أساتذة جامعات و طلاب. وكان هذا الإجراء كافيا لإدخال الهلع إلى قلوب الناس فعند ما يسجن البريء تخاف كل أم على وليدها، و بالرغم من كل هذه الإجراءات بقي بعض الحراك السياسي في الجامعات حتى 1976م.
7 أبريل 1976م
في هذا اليوم تم للقذافي ما يريد من السيطرة الأمنية و الإرهابية على الجامعات بترتيب زحف بقيادة عبد السلام جلود على جامعة طرابلس مستخدما طلاب المعاهد و الثانويات بعد إيهامهم بأن الجامعة مليئة بالعملاء و أعداء الثورة، و بطبيعة الحال كان معهم عدد من أزلام النظام من أمثال سعيد راشد خيشة و موسى كوسا الذي جاء خصيصا من أمريكا للمشاركة في هذا الزحف و غيرهم كثيرون. و هؤلاء يعتبرون أنفسهم أبطال 7 أبريل في الجامعات و بعضهم الآن لا زال يساهم في تدمير الجامعات كأستاذ جامعي من خلال حركة اللجان الثورية، و يجب مسائلة هؤلاء قانونيا عن الأضرار الناجمة عن مواقفهم في الجامعات من تزوير و تدمير للقدرات الجامعية و محاربة للعناصر الوطنية.
و أصبح يوم 7 ابريل من كل عام يوم لطرد الأساتذة الوطنيين أو إعدام الطلاب الوطنيين، و تحول هذا اليوم إلى يوم اسود و نذير شؤم في تاريخ الجامعات الليبية.
و بقية الحكاية معروفة لأبناء جيل ثورة فبراير و المطلوب منا الآن هو عدم تكرار ما حدث بحل الأجهزة الأمنية و بناء منظومات أمنية وطنية آمنة تحمي المواطن و لا تهدده أو ترهبه في الداخل و الخارج. كما أننا بحاجة إلى حملات توعية بين الجماهير من أجل تعامل أرقى داخل مجتمعنا و في مدارسنا و في بيوتنا، مع توفير ضمانات اجتماعية تكفل العيش الكريم للمواطن فالثورة هي البداية فقط أو الخطوة الأولى في مشوار الألف ميل الليبي نحو الديمقراطية و الحرية و العدالة و المساواة.
No comments:
Post a Comment