محاضرة ألقيتها في دبلن بتاريخ 12 يونيو 2011م
المنتدى الثقافي العربي بدبلن
لقد عرفت البشرية عبر العصور المختلفة أنماطا من الحكم تنوعت بين العادل و الظالم و لكن اغلبها كان يسيطر على مسار الدولة بقوة السيف إذا استثنينا الممالك التي حكمها بعض الأنبياء من خلال كتب سماوية و في ظلال السيوف و لكنها كانت عادلة.
فمن أباطرة الصين القديمة الذين روعوا الشعوب و أرهقوها بالضرائب، إلى ممالك استخدمت الخرافات و ارتباط الحاكم بالآلهة أو ملوكا ادعوا الإلوهية مرة واحدة مثل ما حصل مع فرعون إلى قياصرة روما الذين علوا سدة الحكم من خلال الحروب. و لم تعرف البشرية نظام حكم بشري هو أقرب إلى العدل من الذي عرفته شعوب الإغريق عند ما قادهم الفلاسفة إلى ما يعرف بالديمقراطية.
الديمقراطية
أصل كلمة الديمقراطية هي ديمو كراسي أي حكم الشعب، و اعتمدت على مجالس تتكون من أهل الحل و العقد في المجتمع و لم تشمل كل السكان في معظم فتراتها. و تناقش هذه المجالس شؤون الناس العامة و تتخذ فيها القرارات بالتصويت. و هدف الديمقراطية في الأصل هو تحقيق العدالة و المساواة بين المشاركين فيها، لان بعض المجتمعات كانت بها طبقات لا حقوق لها.
و لو بحثنا في الفقه الإسلامي لوجدنا أن الشورى كانت تهدف لهذا الغرض في أصلها و لكن جمود التفكير الإسلامي و سيطرة الحكم الجبري وأد مبدأ الشورى من حيث منع تداوله و بذلك أجهض الفكرة و لم يسمح لها بالتطور و النمو الطبيعي من خلال الممارسة و التطوير.
و يمكن لنا تلمس أصول التوجه الديمقراطي الإسلامي من خلال قول الله سبحانه و تعالى" أمرهم شورى بينهم" و هنا إشارة صريحة من الشارع إلى أن أمور الدنيا يقررها الناس ما لم يناقضوا نصا شرعيا، كما أن المصطفى صلى الله عليه و سلم قال" أنتم أدرى بأمور دنياكم" و كان يستشير أصحابه في أمور الدنيا و هذه أسس شرعية يمكن لنا أن نبني عليها تصورات مستقبلية لتطوير مبدأ الشورى و تطعيمه بآليات الممارسة الديمقراطية في الجوانب السياسية التي لا تتعارض مع نص شرعي.
و أجمل تطبيق عملي للشورى نراه في انتخابات الرئاسة الأمريكية، ففيها يتنافس المرشحون من كل حزب لمدة عام على نيل ترشيح الحزب ثم تقام الانتخابات الفاصلة بين الأحزاب و في هذه العملية يتعرف المواطن على أدق صفات المرشحين ثم يصوتون لمن يرونه مناسبا لهم.
أركان الديمقراطية
الديمقراطية في أصلها الغربي الحديث تشتمل على ثلاثة أركان:
أولا: الديمقراطية السياسية
و هي تعنى بأساليب التداول السلمي على السلطة من خلال الانتخابات و التعددية السياسية و اتخاذ القرارات بواقع الأغلبية و لكن مع احترام خصوصيات الأقلية.
و الآليات المتبعة فيها لا تتناقض مع أسس الشرع الإسلامي من قريب أو بعيد حسب ما أرى.
ثانيا: الديمقراطية الاجتماعية
و هي تتوسع في مبدأ الحريات و المساواة بين الجنسين بشكل يقود إلى تناقضات جوهرية مع الفطرة البشرية و أسس الشرع الإسلامي، فتصل إلى الموافقة على الزواج المثلي في بعض المجتمعات. و الفقه الإسلامي ثري بأسس العدالة الاجتماعية و غمي عن استنساخ الأفكار المستوردة.
و هذا الطرح لا يناسب المسلمين و يتناقض مع المرجعية الإسلامية للمجتمع و بالتالي هي مرفوضة جملة و تفصيلا.
ثالثا: الديمقراطية الاقتصادية أو الركن الاقتصادي
و هو يسعى إلى تحقيق أعلى معدلات الكسب للأغنياء بينما يفرض أعلى الضرائب على الفقراء بالقياس إلى دخولهم. و الفقه الإسلامي غني عن هذه الممارسات و لو أتحنا له الفرصة للتطور من خلال الممارسة سنكون في غنى عن هذا الجانب.
معالم الديمقراطية السياسية
تتميز الديمقراطية السياسية ببعض المعالم التي برزت من خلال الممارسة عبر العصور الأخيرة بما يحقق التداول السلمي للسلطة و منها:
أولا: فصل السلطات
لكي تتحقق حرية القرار السياسي و نزاهة القضاء و عدالة المحاسبة دون تداخل للمصالح يرى النظام السياسي الديمقراطى فصل السلطة التشريعية و المتمثلة في البرلمان المنتخب و الذي يمثل الشعب عن السلطة التنفيذية المتمثلة في الحكومة و النابعة من خلال البرلمان بالأغلبية أو الاعتماد و السلطة القضائية و التي تمثل المرجعية في الفصل عند الاختلافات في الحقوق و الواجبات. و يرى الكثيرين أن الصحافة الحرة تمثل السلطة الرابعة كرقيب على سير الأمور بين السلطات الثلاث.
ثانيا: إخراج دوائر الحكومة من الحزبية
كما يقرر هذا النظام إخراج مؤسسات الدولة بالكامل من اللعبة السياسية و ينتهي دور الأحزاب عند الانتخابات و لا يتعداها إلى دوائر الحكومة و القوات المسلحة و أجهزة حفظ الأمن العام، أي أن الوزير يأتي للوزارة بحقيبته و أمين سره و لا يغير من جهاز الوزارة أحدا، فجهازها تكنوقراطي محترف لا علاقة له بالحزبية.
ثالثا: استدراك خاص ببلاد المسلمين
لو نظرنا بتجرد في تاريخ المسلمين لوجدنا أن أحد أهم أسباب التخلف في منظومات الحكم الإسلامي ينبع من غياب حرية الاجتهاد السياسي، و لكي تنجح المنظومة الديمقراطية وصولا إلى الشورى العصرية أرى ضرورة استحداث سلطة خامسة مستقلة عن جميع السلطات تعنى برعاية شؤون الدعوة و الإرشاد و البحوث و الدراسات الإسلامية من خلال هيئة مستقلة لعلماء الدين تفرز بالانتخاب الحر مجلسا للفتوى و البحوث. و يمكن لها من خلال بحوث الدراسات العليا إحياء أبواب الاجتهاد في أمور الدنيا و الدين، و بالتالي يواكب التشريع الإسلامي تطورات المجتمع السياسية.
أسس العمل الديمقراطي
يحتاج العمل الديمقراطي إلى عدد من الأسس التي يجب توفرها في الممارسة السياسية لجميع أفراد المجتمع على اختلاف مشاربهم كضمانات لتحقيق أهداف الديمقراطية و المحافظة على استمرارها.
حرية الرأي
لكل مواطن الحق في ما يرى في ما يخص حياته و مستقبل بلاده في كل جوانب الحياة، و هو يتحمل المسئولية القانونية إذا اعتدى على حرية الآخرين. ففي المجتمع الديمقراطي الجميع متساوون فلا يحق لأحد أن يعتبر نفسه الأكثر وطنية أو الأكثر ثورية أو الأوسع فهما أو الأعظم حرصا و لكن الفيصل هو الخيار الديمقراطي من خلال الانتخابات.
حرية التعبير
لكل مواطن الحق في التعبير عن أرائه بالوسائل المتاحة في المجتمع و من خلال وسائل التواصل الإعلامي و الاجتماعي سواء بالكتابة أو الخطاب أو من خلال العمل الفني أو من خلال التحرك الجماعي و الفردي، و في كل هذه الأشكال عليه الانضباط بقواعد التعامل الديمقراطي.
حرية العقيدة
حرية العقيدة مكفولة للجميع كأفراد و لا إكراه في الدين، و لكن لا يحق لمن يخرج عن الجماعة أن يدعو لما يعتقد به لأن في ذلك إعلان حرب على الأسس العقيدية للمجتمع ككل و هذا لا يقبله أي عرف أو قانون في العالم فالأصل في القوانين أن تحمي قواعد المجتمع.
حرية التجمع
من حق جميع المواطنين التجمع في حركات أو جماعات أو نقابات آو اتحادات أو روابط تجمعهم و تنظم نشاطهم على جميع المستويات و الأنشطة، و قد تأخذ أشكالا دائمة أو مؤقتة حسب حاجة أعضائها.
أدوات الديمقراطية
تحتاج العملية الديمقراطية غلى أدوات تنفيذية يتم من خلالها ممارسة الأنشطة بما يحقق أهدافها، و منها الصحافة الحرة و الانتخابات الشفافة و التعددية الحزبية.
الصحافة الحرة
الصحافة الحرة أو بشكل اعم الإعلام الحر يمثل عين الرقابة في المجتمع الديمقراطي على سير دواليب المؤسسات السياسية، و يجب أن تكون حرة من كل أنواع الرقابة و مسئولة قانونا فقط عن ما تنشر.
العملية الانتخابية
تبدأ العملية الانتخابية من الترشح ثم إلى الدعاية الانتخابية و تنتهي بالانتخابات و كل هذه الخطوات تحتاج إلى مؤسسات قادرة و نزيهة كي تنجح العملية. و في المجتمع الديمقراطي الذي ننشده يجب أن تكون الانتخابات هي الفيصل من المستوى البلدي المحلي إلى أعلى مستو في الدولة.
التعددية السياسية
لكي يتحقق التنافس الشريف على تداول السلطة تبرز الحاجة إلى تكوين أحزاب و حركات سياسية فاعلة و قادرة على استقطاب الجماهير و نيل ثقتها من خلال برامجها السياسية المعلنة. و لكي تتوفر الظروف الملائمة لإنجاح العملية السياسية أرى أن تتوفر الشروط الآتية:
1) علنية النشاط السياسي
فلا يجوز في ظل الحرية الكاملة أن يعمل حزب أو جماعة تحت الأرض، فهذا يضعف اللحمة الوطنية و يمهد لسيطرة الغوغائيين على مجريات الأمور.
2) سلمية النشاط السياسي
فمن غير المقبول داخل نفس المجتمع و في غياب احتلال أجنبي أن توجد تنظيمات أو أحزاب أو جماعات تستخدم العنف بأي شكل من أشكاله.
3) وطنية القيادات السياسية
فهدف النشاط هو مصالح الوطن و بالتالي ليس من المعقول أن يتبع أي تنظيم أو جماعة أو حزب لقيادة خارجية تحت أي مسمى سواء أممي أو إسلامي أو قومي.
4) وطنية الدعوة الفكرية للحركات السياسية
فليس من المعقول رفع شعارات أو أطروحات تدعو إلى تفريق الشعب أو تقسيمه إلى فئات أو إلى تقسيم الوطن أو إلى تجريد المجتمع من عقيدته أو جعلها مدارا للخلافات السياسية. و بالتالي كل الدعوات أو التجمعات الدينية أو المذهبية أو العرقية أو الجهوية أو الإلحادية تمثل خطرا على ثقافة و مكتسبات المجتمع التقليدية.
5) محلية التمويل
فمن غير الصحي قبول أي تنظيم أو جماعة تمويل أو تبرعات من أية جهة من خارج الوطن، لأن مثل هذا إذا حدث يفرض على المتلقين للدعم تقديم تنازلات و خدمات قد تضر بمصلحة بقية أفراد المجتمع.
6) الالتزام بالشرائع و القوانين المحلية المنظمة للعمل السياسي تحت كل الظروف.
7) الانتشار الأفقي على أرض الوطن
فلا يجوز أن يكون النشاط إقليميا أو جهويا أو قبليا بحيث تتضح فيه ملامح التكامل الوطني، و يتوفر له الحد الأدنى من العدد المطلوب لترخيص النشاط. و هذا يكفل مصداقية التمثيل السياسي و ينقذ البلد من التشرذم السياسي في تنظيمات قزمية.
8) الالتزام بمبادئ فكرية كجوهر لأي تنظيم و الابتعاد عن الشعارات الجوفاء و تكرار التجارب الصنمية و التي تنتهي بسيطرة الأقلية و العائلة ثم الفرد الطاغوت.
و في الختام أحب أن أكرر أن هدفي من هذا الطرح لم يكن الإجابة على كل الأسئلة و لكن إثارة تساؤلات حول الموضوع توجه اهتمام الجميع إلى البحث و الإطلاع بما يحقق ثقافة ديمقراطية عامة.
هذا ما نريد ان يعرفة الشعب الليبي الذي غيب وجهل حتي اصبح لا يعرف ما هي الديمقراطية الحقيقة في ظل الفوضى القذافية البائدة.
ReplyDeleteجزاك الله خيرا
مفتاح ابوسوير