في الثمانينيات من القرن الماضي كان لي صديق عسكري في الجيش الليبي يحمل رتبة عقيد، و كان يتمتع بخلق رفيع و استقامة و كثيرا ما كنا نتحدث بأسلوب التورية عن الأوضاع في ليبيا و ذات يوم أظهرت له حاجة الوطن إلى التضحية في كل وقت. ففهم ما أقصد و رد علي فقال: يا دكتور أنا والدي قال لي كلمة لن أنساها أبدا: الشعب الليبي لا يستحق التضحية.
عندها فهمت ما قصد و تجنبت الحديث معه في مثل هذا الموضوع، و الآن و بعد حوالي ستة اشهر من تفجر الثورة الليبية و سقوط عشرات الآلاف من الشهداء و أضعاف هذا العدد من الجرحى و المصابين طرحت هذا السؤال على نفسي: هل نحن نستحق كل هذه التضحيات؟
في 17 فبراير تفجرت ثورة الشعب الليبي دفاعا عن النفس في وجه القمع الوحشي لكتائب الشيطان يوم خرج الناس بطريقة سلمية يطالبون بالكرامة للمواطن و العدالة لضحايا أبي سليم و الدستورية لليبيا. و كان بالإمكان أن تنتهي الأوضاع مثل سابقاتها في السنين الماضية و يتم وأد التحرك في مكانه و لكن الله سبحانه و تعالى استجاب لدعاء الثكالى و الأرامل و الأيتام و المساجين على مدى أربعة عقود ففتح أبواب جنانه للشهداء و كأني بالسماء و قد ملئت بالملائكة و هي تستقبل أرواح الشهداء و تلبسهم أكاليل الشهادة و تدعو لنا بالانتصار. فهؤلاء الشهداء هم من كسر حاجز الخوف و لبى نداء الله و نداء الوطن و هم المنتصر الحقيقي في هذه الثورة، أما الأحياء فقد تدور برؤوسهم الدنيا و يعودون لضلالهم إلا من رحم ربي. و في الوقت الذي اندفع فيه الثوار لمواجهة كتائب الشيطان و لا زالوا يتحركون من موقع إلى موقع و من خندق إلى خندق باتجاه طرابلس بدأ المتسلقون و أصحاب المصالح و النوايا الشخصية و الوصوليون في ركوب الموجة و بأشكال مختلفة و بالتالي بدا الرماد يلون مسيرة مشاعل الثوار باللون الأسود. و كأننا نعيش مقولة" الحاج موسى هو موسى الحاج"، برزت قيادات وطنية نظيفة و لكنها محاطة بطبقات من رجال الطاغية و ابنه فهل نكون بهذا وفينا حق دماء الشهداء فعلا.
الثوار على كل الجبهات يواجهون الموت و يطلبون الجنة في صبر و ثبات و طوابير المتفرجين و المنشقين يبحثون لأنفسهم عن مواقع في هرم السلطة الجديدة. و الخطر الأكبر يكمن في العناصر التي تحمل السلاح في شوارع المدن المحررة بدل أن تتوجع به إلى الجبهات أو المجموعات المخترقة و العميلة للشيطان التي تتحرك تحت ستار الثورة، و تجار السلاح و الباحثين عن الغنائم الشخصية من أسلحة و سيارات و قد يجر الطمع بعضهم إلى سلب ممتلكات الشهداء و الجرحى، أو الذين يستغلون الأحداث للانتقام و تسوية حسابات شخصية قديمة. و أضف إلى هؤلاء دور المحبطين الذين لا يتحملون أي جزء في الصراع و لكنهم يتذمرون لأتفه الأسباب أو يشككون في النوايا بحجج واهية و لا يريدون دفع ثمن الحرية مع بقية الشعب، ناهيك عم من يبحث عن مصالحه مع الطاغوت و يدافع عن سفينة غرقى لا محالة. قد نختلف معهم و لكننا لا ننسى أنهم أخوة لنا في هذا الوطن و لهم علينا حق النصيحة، فمتى يستفيقون من سباتهم و ينتبهون لمؤامرات الطاغوت.
الكثيرون منا خرجوا في المظاهرات و هتفوا بشعارات الثورة و أغلاها" دم الشهداء لن يضيع هباء" و لكن ماذا فعلنا لتحقيق هذا العهد لشهدائنا. و كيف نبرهن على أننا نستحق كل هذه التضحيات.
الوفاء لدم الشهداء يعني الالتحام بالثورة و الدفاع عنها و الاستعداد لتطوير و تحسين الجهود المبذولة.
الوفاء لدم الشهداء يعني الالتفاف حول المجلس الوطني و دعمه بالخبرات و العمل على تطوير و تحسين أدائه.
الوفاء لدم الشهداء يعني الدفاع عن مبادئ الثورة في الحرية و الكرامة و العدالة و المساواة في كل لحظة و في كل موقع.
الوفاء لدم الشهداء يعني وضع الرجل المناسب في المكان المناسب و الاستعداد لاستبعاد من يخطئ أو يحاول أن يستفيد أكثر مما يفيد.
الوفاء لدم الشهداء يعني تأدية الواجبات قبل المطالبة بالحقوق، فكيف نطلب من الثوار الموت في الجبهات و نحن نقصر في أداء أعمالنا في القرى و المدن المحررة.
الوفاء لدم الشهداء يعني تحويل الشعارات إلى حقيقة و نبذ الفتن و الانقسامات.
الوفاء لدم الشهداء يعني وحدة الصف و تماسك الجبهات في كل موقع و الاستعداد للتضحية.
الوفاء لدم الشهداء يعني التصرف بحكمة و مسئولية و عدم استغلال الظروف و تجنب الإسراف فالمعركة قد تطول و عندها سنفتقد كل رصاصة لعبنا بها.
الوفاء لدم الشهداء يعني احترام القوانين و خاصة التي تحمي حقوق الآخرين فيجب أن لا نعتدي على حق أحد فذلك يعني ردة عن مسار الثورة.
الوفاء لدم الشهداء يعني الانتباه لأخطار المرحلة و اليقظة في مراقبة الغرباء و المشبوهين في كل مدينة تحسبا للاختراق من طرف كتائب الشيطان.
الوفاء لدم الشهداء يعني رعاية أبناء الشهداء و الأرامل و المصابين و تقديمهم على أنفسنا في كل شيء.
الوفاء لدم الشهداء يعني الاستعداد للتضحية بالتدرب على حمل السلاح و تجهيز المقاتلين و رفع الروح المعنوية للمواطنين بنشر الأمل في النصر و محاربة الإشاعات المغرضة.
لقد دفعنا ثمنا كبيرا و ليبيا تستحق هذا الثمن و الحرية تستحق هذا المهر و مشوارنا لم ينته بعد فنحن لا زلنا نحتاج إلى تضحيات أكبر لاستكمال التحرير لكامل تراب الوطن، فعلينا أن لا نضيع ثمرة هذا الكفاح و علينا الوفاء لدماء الشهداء و ليكن شعارنا" الوفاء الوفاء لدماء الشهداء"و لعشرات السنين.
No comments:
Post a Comment