بعد تحرير التراب الليبي بالكامل من سيطرة الطاغوت و أزلامه يواجه الليبيون معارك أخرى ربما تكون اشد ضراوة لأنها ستكون مع الذات لنزع رواسب و مخلفات أربعة عقود من القهر و الفقر و التجهيل و الإذلال و يتوج النصر في هذه المعركة بتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة. و قبل أن ندخل في مصالحة عامة على كل فرد فينا و كل فئة في المجتمع أن تتولى مواجهة معاركها الخاصة بها. فالمصالحة تمر عبر محطات المصالحة مع الذات، ثم المصالحة بين الأعراق، ثم المصالحة بين المناطق، ثم المصالحة بين أعداء الأمس وصولا إلى المصالحة مع الحاضر.
الأسس السياسية للمصالحة الوطنية
لكي تكون المصالحة الوطنية عادلة و دائمة و شاملة و لكي لا تكون مصالحة مصالح مرحلية يجب أن تستند على قواعد صحيحة و يتحقق من خلالها الوئام الاجتماعي و تسليم مقاليد القرار إلي الشعب الليبي الذي دفع الثمن غاليا عبر الأجيال تضحيات و دماء و دموع كما زكاه مرة أخرى مع تفجر هذه الثورة المباركة. و بالتالي يجب أن يتحكم الشعب بعد استكمالها في مقدراته بشكل ديمقراطي يحمي مصالح كل الناس أي كل الفئات ويضمن الاستمرارية ويحقق التقدم والازدهار. و لقد مثلت الشهور الماضية و أحداث الثورة الليبية محطة إستراتيجية لنزع فتائل الفتن على جميع المستويات.
و يمكن تحقيق المصالحة السياسية إذا قبلت كل الأطراف بالأسس العامة للمصالحة السياسية و احترام الخلاف و لكن بشرط أن ترد الحقوق إلى أصحابها فكثير من الذين يزايدون على الثورة هم في الواقع يحاولون حماية مكتسبات غير شرعية تحصلوا عليها من خلال ولائهم للنظام المخلوع. و هذا يشمل الحقوق المادية للناس أو الحقوق العامة للمجتمع، و هنا يجب أن لا ننسى التعويضات المستحقة للمتضررين سابقا و خلال المعارك و الاهتمام الذي يجب أن يحضا به الجرحى و الأيتام و الأرامل من أبناء ليبيا من خلال مظلة للضمان الاجتماعي و برامج التنمية الاقتصادية.
و أهم قاعدة للتصالح السياسي تكمن في التسليم لنتائج صناديق الاقتراع بروح وطنية فلا يوجد أحد أحرص من أحد و لا فئة أكثر إخلاصا من فئة فالكل أبناء هذا الوطن الكبير. و النصر الذي تحقق هو ملك للجميع و من أجل مصلحة الجميع فلا يوجد بيننا غالب و لا مغلوب، بل أناس نحسبهم خدعوا و غرر بهم و من بقيت لديهم قناعة بأفكار ألقذافي يمكنهم تشكيل حزب سياسي يطرحون من خلاله تصوراتهم في صناعة المستقبل.
المصالحة مع الذات
قبل أن يكون لأي مواطن دور في المصالحة الوطنية العامة عليه أن ينتصر على رواسب العهد السابق في نفسه و بالتالي تنتصر الثورة في داخله و يتصالح مع الواقع الجديد. و من أخطر هذه الرواسب المنتشرة بيننا السلبية القاتلة، فلقد تعود المواطن في السابق أن يستقبل قرارات و يتعايش معها بالمراوغة أحيانا و بالسلبية أحيانا و لكننا الآن أمام فترة تحتاج إلى مشاركة إيجابية من الجميع في اتخاذ جميع القرارات. و لا زالت عقدة الصنمية واضحة في البرامج المرئية و اللقاءات فنلاحظ أن السائل يريد أن يعرف رؤية المسئول أو يحصل على توجيهات من المسئولين الذين لا شرعية لهم سوى تفويض غير دستوري مرحلي.
علينا أن ننتقل من مرحلة المواطن الذي يطالب إلى مرحلة المواطن الذي يريد، و هو ما يعرف بتحرر الإرادة و عندها سوف يستجيب لنا القادر القدير و نحقق آمالنا.
كذلك نلاحظ خوفا أو عزوفا عن المشاركة السياسية تصل إلى تجريم من يدعو إلى الحزبية و هذا ناتج عن رواسب تراكمية لأربعة عقود من تزييف الحقائق تحت شعار فرق تسد. فمن بالله عليكم ناضل ضد ألقذافي فعلا و تحمل السجون و المهاجر و التضحيات غير السياسيين، و معظمهم من الملتزمين دينيا أو وطنيا. و من رفع راية المعارضة للنظام و المطالبة بالثورة عليه لعدة عقود غير السياسيين، و معظمهم من الملتزمين دينيا أو وطنيا أيضا، و كان موقفهم هذا مجردا من المصالح الشخصية.
علينا أن نتصالح مع حقيقة جهاد الشباب الليبي عبر العقود الماضية و نعترف بفضل كل من ساهم في ذلك النضال و نلتف حول من نراه مناسبا للمرحلة القادمة في شكل تجمعات و أحزاب و جمعيات وطنية و العبرة بالنتائج و ليست بالوسائل. و التعددية الحزبية تجربة بشرية عالمية تراكمية ثبت نجاحها في كل دول العالم المتقدم وقد ثبت لنا بالتجربة فساد الهيمنة الفردية و الأسرية و الشللية في غياب الحزبية.
و من رواسب الماضي المعطلة لطاقات الشعب إهمال دور المرأة في بناء المجتمع و إهمال دورها السياسي و قد كان للمرأة مشاركات فاعلة في الجهاد الليبي ضد الاستعمار و كان لها دور أكبر في هذه الثورة المباركة. إذا نحن بحاجة إلى احترام دور كل مواطن و مواطنة و تفعيل هذا الدور في معركة البناء خاصة و أن الجامعات مليئة بالطالبات و قد فقدنا أعدادا كبيرة من الشباب في معارك التحرير.
و من معطلات التقدم انخفاض معدلات ساعات الأداء اليومي في العمل و تدني مستوى الكفاءة في الأداء و تغلب الجشع و الحرص على الكسب السريع و لو على حساب الأمانة و الجودة في المنتج.
إن مرحلة البناء القادمة تحتاج منا تكاتف الجهود و رص الصفوف و بذل مجهود مضاعف و عندها ليس هناك مانع من أن يجني المرء على قدر عطائه و علينا أن لا ننسى تضحيات من سقطوا في سبيل حرية هذا الوطن فنضحي قليلا من أجل استكمال ما ضحوا من أجله ببناء وطن عزيز بين الأوطان كريم باهله.
المصالحة بين الأعراق
يضم المجتمع الليبي عدة مكونات عرقية امتزج معظمها و انصهر مع الأيام و لكن بعضها لا زال في حاجة للتصالح المشترك من أجل مستقبل أفضل. فعلى الأغلبية الناطقة بالعربية أن تحترم خصوصيات بعض الأعراق التي تحب أن تحتفظ بمعالمها الحضارية الخاصة من لغات و أسماء و عادات و تقاليد في محيط تواجدها. و لا مانع من تدارس اللغات و اللهجات الليبية القديمة أو المحلية و كذلك التراث الفني في مناطق انتشارها، و لكن على أي مكون من مكونات الشعب الليبي أن لا يشعر البقية بأنه يطردهم من حياته تحت شعار الخصوصية الثقافية، فنحن جميعا نعيش في بيت واحد اسمه ليبيا.
علينا أن نعترف بما حدث من أخطاء أو تجاوزات أو اعتداءات أو ظلم بيننا، و علينا أن نتسامح و نتصالح من أجل الأجيال القادمة على أسس عادلة تعطي كل ذي حق حقه. و خير دليل على هذا التصالح يكون في فتح قنوات التواصل و الترابط البشري من خلال الزواج بين الأعراق، فنحن كمسلمين نتزوج الكتابية و لكن بعضنا يحرم الليبية المسلمة على الليبي المسلم و في هذا ظلم اجتماعي و تقوقع عرقي لا يليق بأبناء الوطن الواحد و هو من بقايا القبلية العنصرية القديمة.
المصالحة بين المدينة و ما حولها
في كل مدننا هناك تحسس و توجس بين المدينة و الدواخل او بين البدو و الحضر ناتج عن اختلاف في العادات و التقاليد بسبب فروق نمط الحياة في المدينة والبادية و اختلاف المستوى الثقافي العام. و خير طريقة للمصالحة بين المدينة و ما حولها يكون في إلغاء المركزية في الإدارة و نشر التنمية أفقيا و تطوير المدن الداخلية و القرى و دعم إمكانياتها الثقافية بما يضيق الهوة بين المناطق و يحقق العدالة في التنمية و يوفر مواقع و فرص تشغيل فيها و بالتالي يستقر أبناؤها فيها و يساهمون في تطويرها. و هذا بطبيعة الحال سيخدم المدن في تخفيف الأعباء الملقاة عليها في خلق مواطن الشغل و أماكن السكن الإضافية.
No comments:
Post a Comment