يمثل انتصار حزب حركة النهضة الإسلامية التوجه في انتخابات المجلس التأسيسي محطة تاريخية جديرة بالاهتمام ليس في تاريخ النضال التونسي الوطني فحسب و لكن على مستوى تاريخ الحركات التحررية الإسلامية، فهذا الحدث يبشر بعودة الفكر الإسلامي إلى دواليب الدول و بطريقة سلمية و ديمقراطية. و هو في الحقيقة يشمل انتصارات عدة، فهو انتصار لنشطاء حركة النهضة و انتصار لإطروحات حركة النهضة و برامجها السياسية و انتصار لمبادئ الاعتدال و الحداثة في الفكر الإسلامي الحديث و انتصار مشروع الفكر الإسلامي، و انتصار لعامة الناخبين الذين رؤوا في الإسلاميين البديل المناسب لحل مشاكل المجتمع التونسي الاقتصادية و الاجتماعية.
كما أن هذا الانتصار يعطي الفرصة لأول مرة لقيادات الفكر الإسلامي الإصلاحي كي تحكم دولة عربية عريقة و معروفة بجذورها الحضارية مثل تونس. فخلال ما يربو على ستة عقود جرب العرب و المسلمون كل أنواع الحكومات و الأفكار و التيارات السياسية و تعتبر التجربة التونسية رائدة في هذا المجال. و في بلاد العرب تم فرض حكومات قومية و بعثية و ناصرية و علمانية و عسكرية بأطياف من رجال الغرب و رجال الشرق و لقد آن الأوان أن يختار الشعب و يراهن على المرشح الإسلامي الوسطي الحداثي بعد أن تحققت له الحرية الكاملة من خلال الثورة على ما سبق من أنظمة.
و لهذا الانتصار عدة أبعاد يمكن أن تشتمل على الآتي:
أولا: تونس هي أهم معقل من معاقل الليبرالية و العلمانية المتجذرة على أسس فكرية و ممارسات اجتماعية و فوز النهضة بأكبر عدد من المقاعد يدل على أن المستقبل للتيار الإسلامي المعتدل الذي يواكب تطلعات الشعب و يحترم مشاعره في كل الدول و الساحات.
ثانيا: يدل انتصار حركة النهضة بعد طول غياب عن الساحة الشعبية و بهذا الحجم على قوة الانتماء الإسلامي في تونس رغم حملات التغريب و العلمنة القصرية التي مارسها أبو رقيبة و من بعده ابن علي. و أتوقع أن تحصد الحركة أغلبية مطلقة في الانتخابات القادمة إذا نجحت في الرهان و حققت للشعب التونسي ما يصبو إليه من خلال برامجها الإنمائية.
ثالثا: أحد أهم و أبرز دلائل الانتصار هو فوز 42 مرشحة من النساء من حركة النهضة بمقاعد في المجلس التأسيسي من أصل 49 سيدة فزن في الانتخابات و من أصل 90 مقعدا فازت بها حركة النهضة. و هذه النتيجة تدحض ادعاءات الليبراليين و العلمانيين و اليساريين الذين يتهمون الإسلاميين بهضم حقوق المرأة. و صدقت العجوز الليبية عند ما قالت على شاشة التلفاز: نبوا اللي يخاف ربي. و هي تعني أن الذي لا يخاف الله يخاف الناس من شره.
رابعا: يمثل هذا الانتصار أهم اختبار لقيادة و أعضاء حركة النهضة فانتصروا مرة أخرى عند ما أعلنوا ضرورة الوفاق الوطني و التعاون مع جميع الفرقاء من أجل تونس في بيان النصر.
خامسا: لقد كان انتصار حركة النهضة انتصارا لفقراء المناضلين فلا أحد في المشرق أو المغرب يمد يد العون لهم و قيادة الحركة و رجالها عصاميون و لا يقبلون هبة من أحد. فهم ينحدرون من شعب عريق يعتز بأصوله، و أنا أتحدى كل الواهمين و المزيفين الذين يتشدقون بدعم خليجي للحركات الإسلامية و الغريب أن بعض من يردد هذا الكلام يتمرغ في أموال شعبه كما يتمرغ الحمار في التراب.
سادسا: و انتصرت الحركة على نفسها عند ما أعلن شيخها إكباره و إجلاله لكل المناضلين عبر نصف قرن من الزمان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار الذين قاسوا من مرارة السجون و المهجر من أجل تونس و شكرهم جميعا و اعتبر أن هذا النصر للجميع و نصر للإرادة التونسية و تعهد بالعمل مع الجميع من أجل تونس.
سابعا: يحمل هذا النصر في طياته شهادة بنزاهة الجهات الرقابية التونسية و المشرفون على الانتخابات و الأجهزة الإعلامية فالذي فاز في الانتخابات يدخل الحلبة لأول مرة فهنيئا لتونس برجال حكومتها الانتقالية و رجال أمنها و جيشها الوطنيين فعلا فهم لم يحاولوا فرض أجنداتهم أو إبعاد أي فئة من المنافسة إرضاء للغرب.
ثامنا: أعظم درس يقدمه هذا الانتصار لبقية الحركات الإسلامية هو في انتصار منطق الاعتدال و الحداثة و الانفتاح الحضاري و عدم إقصاء التيارات الأخرى من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار فالكل شركاء و أخوة في هذا الوطن.
تاسعا: يبرز في هذا الانتصار دور الزعيم الروحي الوسطى الحداثي المخضرم المتمثل في الشيخ راشد الغنوشي، الذي بدأ حياته كرجل عروبي و قومي ثم ناصري و بعد هزيمة 67 تبنى الفكر الإسلامي عند ما تبين له عقم الطرح الثورجي العربي. و تحول من دارس للفلسفة إلى شيخ له فلسفة إسلامية حداثية معتدلة ترقى إلى مستويات إنسانية عالمية، فهي تحترم الاختلاف و تقبل بحكم صناديق الاقتراع.
عاشرا: إن حجم تواجد المرأة في صفوف الحركة و بين مرشحيها و قدرتها على نيل ثقة الناخبين و الناخبات دليل على أن التيار الإسلامي الحداثي المعتدل لا يعتبر صوت المرأة عورة و لا يعتبر المرأة عورة و لكنه يعتبر غيابها عن المشهد السياسي العورة الكبرى. فالنساء شقائق الرجل في أسمى معانيها،
فمرحبا بالمرأة الصادقة، المرأة المناضلة و المرأة التي تحمل طموحات و آمال في المشاركة السياسية من أجل مستقبل أفضل للجميع. و التيار الإسلامي لا يريد صوت المرأة في الانتخابات فقط و لكنه يريد أن يسمع صوتها في المؤتمر الوطني القادم.
No comments:
Post a Comment