لا أحسب أن أحداً يمكن أن يجادل في
أننا بتنا نتخبط في مسيرتنا في اتجاه بناء الدولة، وأن مختلف المؤشرات أخذت تبين
لنا أن الطريق التي سرنا فيها حتى الآن هي طريق مسدودة، لا أفق ينظر من خلالها،
ولا أمل يرجى من مواصلة السير فيها.
ولقد ظللنا، في أثناء تخبطنا، منذ
بداية مسيرة الثورة، نتحرك من محطة إلى أخرى، بطريقة عشوائية غير مدروسة، وبمنهجية
التجريب والمحاولة، فنخرج من تجربة، بعدما يتبين لنا أنها فشلت ولن تؤدي إلى
نتيجة، لنخوض تجربة أخرى، بالطريقة العشوائية نفسها، لنكتشف بعد قليل أنها أيضاً
فاشلة وغير مجدية.
وهكذا، ارتكبنا ذلك الخطأ الفادح
بالمنهجية التي وضعنا بها الإعلان الدستوري، والمنهجية التي نظمنا بها انتخابات
المؤتمر الوطني، ثم المنهجية التي شكلنا بها الحكومتين الانتقاليتين، قبل انتخاب
المؤتمر الوطني وبعده، ما أدى بنا إلى ما عشناه وما زلنا نعيشه من تخبط وارتباك
وتعثر، إن لم نقل من تقهقر وتراجع إلى الخلف.
لقد تبين منذ وقت مبكر أن اختياراتنا
لممثلينا في المؤتمر الوطني العام، الذي انتهينا جميعنا إلى المراهنة عليه،
لانتشالنا من الوهدة التي أوصلنا إليها المجلس الانتقالي، بأمل أن تكون لنا مؤسسة
تتمتع بقدر من الشرعية الحقيقية، التي هي شرعية الانتخابات المستندة إلى إرادة
الناس، كانت اختيارات في منتهى السوء، أفرزت لنا كياناً متدني المستوى من جهة
الكفاءة والجدارة بتحمل المسؤولية الجسيمة الملقاة عليه.
وعلى الرغم من أننا جاهدنا بشراسة
وعناد وإصرار للتشبث بهذا الكيان، ومقاومة أي محاولات للتشكيك في شرعيته وجدارته،
ورفض أي مخططات أو نداءات لإسقاطه أو حجب الشرعية عنه، إلا أننا كنا في كل حالة
وفي كل مرة نكتشف أنه، بمستوى أداء أعضائه المتدني، يخيب آمالنا، ويجبرنا إجباراً
على فقدان الثقة فيه وفي قدرته على إنجاز ما خولناه صلاحية اتخاذ القرار فيه.
وها نحن أولاء، لا سيما بعد مشاهدتنا
كيف عالج المؤتمر مسألة صياغة قانون انتخابات اللجنة التأسيسية، وما انتهت إليه
المشادات والتجاذبات بين أعضائه من إفراز قانون رديء، في تقديري، بكل معنى الكلمة،
نجد أنفسنا نواجه الحقيقة المرة التي ألمحت إليها في بداية هذا المقال وجعلتها
عنواناً له وهي أننا بهذا الشكل قد بلغنا آخر نقطة في الطريق المسدودة التي سرنا
فيها حتى اللحظة.. فهذا القانون الرديء ليس مؤهلاً مطلقا لإنتاج لجنة يمكن بأي
معنى من المعاني أن تكون على مستوى المسؤولية التاريخية، التي تتمثل في وضع دستور
دائم للبلاد، نتخذه جميعنا وثيقة عقد اجتماعي نتعايش على أساسه، ونورثه لأجيالنا
القادمة على مدى السنين. ومن ثم فإن من العبث مواصلة السير في هذه الطريق: طريق
انتخاب لجنة، وفق هذا القانون، نخولها وضع دستور بلادنا الدائم، ومن الحكمة اتخاذ
القرار بالتوقف تماماً عن السير فيها، والعكوف على محاولة البحث عن طريق جديدة.
وفي تقديري أن هذه القناعة التي تولدت
عن مختلف خيبات الأمل والرهانات الخاسرة السابقة، وهي آخذة في الانتشار والترسخ
لدى شرائح عريضة ومختلفة من المواطنين، هي التي تكمن وراء الدعوة للتفكير في
إمكانية أن تكون طريقنا البديلة هي العودة للشرعية الدستورية، كما انتهت بنا في 31
أغسطس 1969، بمعنى أن نتوافق على أن نتخذ من دستور دولة الاستقلال قاعدة وأرضية
نقف عليها، لوضع خارطة طريق جديدة، نمنح خلالها أنفسنا وقتا كافياً لترتيب
أوضاعنا، وتنظيم صفوفنا، والقيام بما سوف يكون لازماً من حوار وطني هادئ وشامل،
لوضع ملامح دستور دائم، من خلال آلية التوافق الوطني، الذي يستجيب لطموحات ومطالب
مختلف أطياف المجتمع وشرائحه ومكوناته، ويضع أسس الدولة الديمقراطية التي تحتضن كل
أبنائها، وتكفل لهم جميعاً حياة مستقرة آمنة مزدهرة، تحت راية العدالة والمساواة
وتكافؤ الفرص، وفي ظل سيادة القانون على الجميع دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو
اللغة أو المكانة الاجتماعية أو الثروة.
من الواضح أن هذه الفكرة سوف تصطدم
لأول وهلة بالتساؤل حول المقصود بالضبط من التعبير (العودة إلى الشرعية
الدستورية)، وهل تعني تبني دستور الاستقلال كما هو، أي الدستور المبني على نظام
حكم ملكي وراثي، يمنح السلطات كافة تقريبا للملك، أم تعني تبني ذلك الدستور بعد
إدخال تعديلات مهمة على سلطات الملك، عبر تخويلها إلى برلمان منتخب، وما إذا كان
ذلك يعني بالضرورة استئناف مسيرة النظام الملكي، كما ينص عليها الدستور، فيعدّ
السيد محمد الحسن الرضا السنوسي، ابن ولي العهد في آخر العهد الملكي، وريثا شرعياً
للعرش، نتفق على أن يتولى الملك، إذا قبل بذلك، لفترة محددة، يتم خلالها تشكيل
هيأة تأسيسية، تعكف على إدارة حوار وطني شامل، لبلورة ملامح الدستور الدائم
للبلاد، بعد استفتاء الشعب على خيار نظام الحكم، بين الملكية الدستورية، أو
الجمهورية البرلمانية/الرئاسية.
وفي تقديري أن هذه المسألة قابلة لأن
يتم حولها توافق وطني شامل، باعتبارها خطة إنقاذ وطني، الهدف الرئيس منها هو
انتشالنا من المأزق الذي انتهينا إليه، وفتح أفق مسار جديد، للنقلة المطلوبة نحو
الدولة التي نريد بناءها. وهذا يعني أن العودة إلى الشرعية كما سبقت الإشارة
إليها، لا تعني الخيار الأخير، المتاح أمامنا، بل تعني فقط الخيار الذي قد يكون من
شأنه أن يتيح لنا فرصة وظروفاً أكثر ملاءمة لترتيب أمورنا بطريقة هادئة وواقعية
ووطنية.
ومن هنا فأرى أن من الضروري أن يكون
واضحاً للجميع أن هذه الدعوة هي بمعنى من المعاني، دعوة للتوافق حول خارطة طريق
جديدة، يمكن أن نجعل لها إطاراً زمنياً يتراوح بين 3 إلى 4 سنوات –مثلاً-، نعكف
خلاله على إجراء الحوار اللازم حول الملامح الأساسية التي نريد وضعها لدستورنا
الدائم، من جهة اختيار شكل الدولة ونظام الحكم وخارطة الحقوق والحريات الأساسية
للمواطنين وللمكونات الثقافية..إلى غير ذلك من القضايا التي ينبغي أن يتم تحديدها
وحسم الخيارات بشأنها بآلية التوافق والتراضي، لا آلية المغالبة والأغلبية.
ومن جهة أخرى، أحسب أننا بحاجة إلى مثل
هذه المهلة، كي نعكف على إنجاز ومواجهة الاستحقاقات العاجلة والضرورية، التي لا
أمل لنا بدون مواجهتها في التمكن من فعل أي شيء على أرض الواقع: هذه الاستحقاقات
هي بالتحديد الثلاثة التالية:
1)
معالجة المسألة الأمنية، من خلال وضع الخطط
المناسبة لإنهاء ظاهرة الجماعات المسلحة، والتركيز التام على خطط بناء المؤسستين
العسكرية والأمنية. ويتصل بهذا المجال بالطبع معالجة ظاهرة انتشار السلاح خارج
إطار مؤسسات الدولة.
2)
تفعيل القضاء والرقي به إلى الدرجة المطلوبة كي
يكون قادراً وفعالاً في فرض هيبة القانون واحترامه والتقيد به على الكافة.
3)
تحقيق العدالة الانتقالية، تمهيداً للتمكن من
تحقيق مصالحة وطنية حقيقية، بين مختلف الأطراف التي نشأت بينها حزازات وثارات
وحساسيات إبان حرب التحرير، لإعادة الأمور إلى نصابها، وإنهاء ظاهرة النزوح، سواء
في الداخل أو الخارج.
ولعلنا إذا توافقنا على هذه الفكرة،
وحشدنا وراءها ما يكفي من التأييد والدعم الشعبي، نتمكن من فتح منفذ إلى طريق
جديدة، تقودنا إلى أفق مفتوح، وتنتشلنا من النفق المظلم الذي لا نرى في نهايته أي
بصيص من نور.
د يونس فنوش
No comments:
Post a Comment