عبد الرحيم الكيب رجل الدولة الذي فقدناه
لقد كان الدكتور عبد الرحيم عبد الحفيظ الكيب رئيسا
للوزراء لأول حكومة انتقالية بعد الإطاحة بنظام القذافي شخصية سياسية فريدة فهو
رئيس الوزراء الوحيد في التاريخ الحديث الذي لم يتلق مقابلا ماديا خلال خدمته
كرئيس وزراء فهو كان يعتبر وجوده في الحكومة خدمة وطنية تطوعية لإنقاذ الوطن من
الفوضى التي عمت البلاد. واستطاع في فترة وجيزة لا تتجاوز العام مع أفراد حكومته
من وضع اللبنات الأساسية لاستعادة بناء الدولة وتحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد
الشعب وغادر الحكومة في مشهد حضاري بهيج يعكس مدنية الدولة ثم لم يغادر الوطن وعاش
بين أهله وقد اعتزل النشاط السياسي. بالتأكيد وقع بعض التقصير غير المقصود، ولكن
لظروف فرضتها المرحلة والتدخلات السياسية في أمور الدولة من أطراف أخرى داخل
البلاد. واليوم يبدو واضحا للعيان ما فقدناه بغيابه عن رئاسة الحكومة وما نفقده
حاليا بوفاته لأنه لو كان حيا لكان أفضل مرشحا لرئاسة الجمهورية إذا حدثت الانتخابات
في موعدها.
نشأته
ولد عبد الرحيم خالد الكيب في بنغازي بتاريخ 2 مارس
1950م لعائلة أصولها من صبراته وعاش وترعرع في طرابلس أيام العهد الملكي وتحصل على
شهادة الثانوية العامة في يونيو 1968م والتحق بكلية الهندسة - طرابلس وهي احدى
كليات الجامعة الليبية واختار قسم الهندسة الكهربائية شعبة القوى كمجال تخصصه،
وتخرج في يونيو 1973م وعين معيدا بنفس الكلية وسافر في بعثة الى الولايات المتحدة
لنيل درجة الماجستير والتي تحصل عليها في يونيو 1976م من جامعة جنوب كاليفورنيا.
ثم عاد لأرض الوطن ليباشر عمله كعضو هيئة تدريس بنفس القسم الى ان تقرر ايفاده
لنيل درجة الدكتوراة والتي تحصل عليها من جامعة ولاية كارولينا الشمالية بتاريخ
1984م حيث استقر به المقام للعيش خارج الوطن لأسباب سياسية.
صفاته
تميز عبد الرحيم بصفات حميدة ومنها بشاشة الوجه ولطف
المعشر والتواضع والوفاء والصدق ولين الجانب وكان اجتماعيا يحب لقاء الأصدقاء
ويشارك في النشاط الرياضي ويحب الموسيقى والفن. كان حسن المظهر دائما، انيقا كريما
يتواصل مع أصدقائه وتعلو وجهه ابتسامة لطيفة ويحمل في قلبه حبا كبيرا للوطن وكثيرا
ما كان يتحدث عنه في الغربة.
كما كانت له
قدرات علمية متميزة حيث درّس في العديد من الجامعات ونشر عددا كبيرا من الأبحاث في
مجال تخصصه وأشرف على عدد كبير من طلاب الدراسات العليا.
اما في حياته العملية فقد كان جادا ومخلصا وصارما في
أداء العمل الوظيفي وحريصا جدا على المال العام ومنظما في إدارة وتسيير اعماله.
تشكيل الحكومة
لقد بدأ عبد الرحيم في تشكيل حكومته من لحظة انتخابه من
قبل المجلس الانتقالي واجتهد في اختيار انسب الأعضاء في الحكومة على أساس الكفاءة
وكان يطلب من كل وزير يتفق معه على إعداد خطة لبناء الوزارة تعرض عليه لاعتمادها
ثم تثبت في رئاسة مجلس الوزراء وقد حدث هذا مع عدد من الوزراء حتى قبل اعتماد
الحكومة.
ولكن تشكيل الحكومة لم يسلم من تدخلات المجلس الانتقالي
عندما فرض على عبد الرحيم ثلاث وزراء وهم وزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الصحة وبالتالي
فقد رئيس الوزراء السيطرة على هذه الوزارات وأصبحت مصدر ازعاج لمجلس الوزراء بسبب
تغيب بعضهم عن الحضور عن الجلسات وخاصة الدفاع والداخلية وتصرفهم خارج الحكومة في
تشكيل ودعم تشكيلات مسلحة وتسليحها وتمويلها. كذلك عرقل المجلس الانتقالي تعيين
بعض الوزراء ثم بعد تشكيل الحكومة بمدة فرض المجلس الانتقالي تعيين وكيلا لوزارة
الدفاع وبميزانية خاصة به ليعمل في المنطقة الشرقية من إقليم برقة وهذه الأخيرة
خلقت بذورا للفتنة في المنطقة.
إنجازات حكومة الكيب
لقد نجحت الحكومة الانتقالية في استعادة تدوير عجلة
الدولة في كل البلاد وذلك لاعتمادها مبدأ الكفاءة لا المحاصصة في اختيار الوزراء
كلما أمكن ذلك ومن أهم إنجازاتها على سبيل المثال لا الحصر الاتي:
1- السيطرة على منافذ البلاد وتحقيق كم كبير من الامن
والأمان فبالرغم من انتشار السلاح في كل مدينة وقرية وشارع لم تحدث تصفيات او
اغتيالات او جرائم سطو.
2- توفير السيولة في المصارف وتدني سعر الصرف للعملات
الأجنبية.
3- توفير الحاجيات اليومية للمواطنين بأسعار معقولة
وتوفر الماء والكهرباء.
4- عودة جميع طلاب المدارس والمعاهد والجامعات لفصول
الدراسة ومعالجة المشاكل الناجمة عن مرحلة الاشتباكات ويكفي ان نذكر ان عدد طلاب
التعليم كان يقترب من نصف مليون طالب وطالبة.
5- الحرص على سيادة ليبيا واستقلالها بعدم توريطها في أي
اتفاقية قد تنتقص من حريتها واستقلالها فرفضت الحكومة ممثلة في رئيسها المعاهدة
الإيطالية وعرضا أمريكيا بالدعم العسكري وحماية الحدود انتظارا لعودة القوات
المسلحة لتولي إدارة مثل هذه الأمور.
6- فتح المجال الجوي للرحلات الدولية وصيانة بعض
المطارات لتمكين المواطنين من السفر في ظروف آمنة.
7- دعم المفوضية العامة للانتخابات وتوفير ما يلزمها من
اجل إنجاح اول انتخابات نزيهة في تاريخ ليبيا والتي افرزت المؤتمر الوطني العام.
8- العمل على استكمال منظومة الرقم الوطني وإصدار جواز
سفر ليبي الكتروني حيث تمت جميع الاعدادات له وتم تنفيذه بعد التسليم للحكومة
التالية.
9- استعادة تشغيل حقول النفط ورفع مستوى الإنتاج
والتصدير الى الطاقة القصوى خلال عدة أشهر من العمل.
الصعوبات التي واجهت حكومته
لقد استلم عبد الرحيم الحكومة في وضع كانت فيه الدولة
ممزقة ويكفي ان رئيس المكتب التنفيذي أيام احداث 2011 كان لا يقيم داخل ليبيا. وقد
واجهته وحكومته صعوبات جمة ومنها:
أولا: تدخلات المجلس الانتقالي
لقد كان المجلس الانتقالي متمثلا في رئيسه يتدخل وبشكل
متكرر في اختصاصات رئيس الوزراء وفي اختصاصات الحكومة بداية بفرض وزراء ووكيل
وزارة ثم قرار دفع مكافئات لأعداد مهولة من الكتائب التي اعتمدها دون الرجوع
للحكومة ودون اتخاذ أي إجراءات تدقيق ففي نهاية 2011 كان عدد الثوار لا يتجاوز
عشرة آلاف ثم وجدنا ان الكتائب التي تم اعتمادها خلال أشهر قليلة يصل عدد منتسبيها
الى حوالي ربع مليون. ثم جاء قرار دفع المكافآت والذي أرهق ميزانية الدولة ووضعها
تحت ضغوط امنية هائلة. ولقد اضطر عبد الرحيم لتقديم استقالته للمجلس الانتقالي،
ولكنه رفضها.
تانيا: التهديدات الأمنية
لقد تعرض عبد الرحيم شخصيا في عدة مناسبات للتهديد
بالسلاح وفي أكثر من مدينة حيث أشهر السلاح في وجهه بسبب رفضه لمبدأ المكافآت والتدخلات
العسكرية في إدارة شؤون الدولة. كما تم اقتحام مكتبه أكثر من مرة واقتحام مقر
الحكومة ووصل الامر بأحدهم ان وضع مسدسا في راسه واخر ليجذبه من رباط عنقه وهذا أذكره
لكي يعرف الشعب الحقيقة وعند الله تلتقي الخصوم.
ثالثا: المؤتمر الوطني العام
بالرغم من أن عبد الرحيم وحكومته كانوا حريصين على نجاح
الانتخابات بشكل نزيه الا ان المؤتمر الوطني بدل ان يركز على مهمة اعداد الدستور
قفز الى انهاء حكومة الكيب واستبدالها في شكل هزلي راميا عرض الحائط بما أنجزت وما
كان يمكن ان تحقق لو استمرت في إدارة شؤون البلاد. بل الأنكى من هذا سعى رئيس
المؤتمر الى تشويه سمعة الرئيس الكيب بقوله انه أنفق خمس مليارات على القرطاسية
علما بان الحكومة اشتغلت سبعة أشهر بدون ميزانية ثم بعد اعتماد الميزانية تحولت
الى حكومة تسيير اعمال بعد شهرين استعدادا للتسليم للحكومة القادمة. ثم زاد الطين
بلة رئيس الحكومة التالية عندما قرر الاستغناء عن كل من عمل في حكومة الدكتور
الكيب ورفض دراسة التقارير التي أعدتها حكومة الدكتور الكيب قبل التسليم وبالتالي
دخلت حكومته في دوامة.
وفاته
توفى الدكتور عبد الرحيم الكيب بتاريخ 21 ابريل 2020 إثر
نوبة قلبية في الولايات المتحدة التي ذهب اليها الخاص للعلاج على حسابه الخاص، حيث
أجرى عملية جراحية كبيرة تكللت بالنجاح ثم رأى الأطباء انه يحتاج الى عملية أخرى
على القلب فطلب من أحد أصدقائه بيع ارض يملكها بطرابلس لكي يصرف على علاجه من ماله
الخاص وداهمته الازمة القلبية بعد سويعات من اخر اتصال هاتفي له بليبيا. كان
بالبيت مع زوجته قبل المغرب وطلب منها اعداد اكلة ليبية يحبها وجلس في الحديقة ثم
شعر برعشة بسيطة فدخل بالداخل وعندما لحقت به زوجته وجدته شبه مغمى عليه فطلبت
الإسعاف وبعد حوالي الساعة فارق الحياة في المستشفى وبذلك طويت صحيفة مليئة
بالخدمة العامة والوطنية والاجتماعية أينما حل عبد الرحيم.
كانت وصيته ان يدفن في ليبيا، ولكن ظروف الجائحة التي
يمر بها العالم منعت من ذلك فتم دفنه في أمريكا على امل نقل جثمانه ليوارى التراب
بمدينة طرابلس عندما تكون لنا دولة قادرة.
No comments:
Post a Comment