لقد امتزج في تونس عبر العصور صراع الأجيال من أجل مستقبل أفضل؛ بين الشمال و الجنوب و بين الشرق و الغرب و بين الحق و الباطل و بين الإسلام و الكفر و بين المستعمر الغريب و المواطن الوطني الأصيل و بين التقدم و التخلف، من قرطاجنة التاريخية إلى تونس المعاصرة مرورا بالقيروان و ما أدراك ما القيروان، فالقيروان أيام عزها و عز تونس كانت منارة العالم الإسلامي في الفقه و العلم و الحضارة.
إنها تونس الشابى و تونس الشابة و تونس الشباب، تونس الصابرة التي استخف بها الطاغوت و رفاقه و أعوانه و من نصبه عليها في ليلة ظلماء امتزج فيها الظلم بالظلام. كلما زرت تونس و تجولت بين مدنها و قراها كنت أتعجب من طاقات الشباب المهدرة على نواصي الشوارع و في المقاهي تنتظر يوم الفرج، يوم تجد شغلا تقتات منه أو موقعا تنطلق من خلاله في رحلة البناء، إنها الطاقات المعطلة و المغيبة عن الحياة بينما يتجول الغربيون في طول البلاد و عرضها و ينتهكون عرضها و حرماتها تحت حراسة تلاميذهم من رجال النظام. و لقد ضاعت الآلاف من شباب تونس بين الغرق و الحرق و اللجوء و السجون و المعتقلات أو بين الضياع و اللهو و المخدرات كل هذا يحدث و الدولة و الدوائر الرسمية فيها تتحدث عن الحداثة و التطوير و التطور. بطبيعة الحالة التونسية يوجد تميز تونسي حضاري أصيل ليس للدولة يد فيه بل هي التي ساهمت في تدمير عراه و تحويل مجراه عن المسار العربي الإسلامي الصحيح إلى الفرنسة و التغريب المريب الذي بدأه أبو رقيبة فكريا و بوليسيا و استمر فيه النظام المنهار قهرا و استبدادا و تسلطا. و ابتدأ الأمر باجتثاث جذور الفكر الإسلامي و محاربة اللغة العربية و انتهى بمحاربة أبسط عناوين العفة و الطهارة في محاربة الحجاب و مظاهر التدين وصولا إلى إغلاق المساجد و حصر من يدخلها و فتح البلاد على مصراعيها للعاهرات و نصف العاريات من بنات أوروبا و للمنحرفين و الشواذ.
إنها تونس الزيتونة، تونس الخضراء التي بقدرة المولى جل و علا تفجرت نارا تحت أقدام الطغاة، و سبحان من جعل من الشجر الأخضر نارا و من تونس الخضراء لهبا يهرب من حره العملاء. و لقد استخف بن على بالشعب التونسي طويلا و لكن الله غالب على أمره و لو كره المنافقون. استخف بن على بقومه و شعبه و لكنهم لم يطيعوه بل صبروا عليه و إن الله مع الصابرين. فهل يتعلم بقية الحكام و خاصة الظالمين منهم هذا الدرس. هل تتعلم الشعوب العربية الأخرى من تجربة الشعب التونسي الصابر و المجاهد في الثورة الشعبية المباشرة و العفوية. إنها ثورة الشباب و الشابات، ثورة الرجال و النساء، إنها ثورة المحرومين من أبناء الطبقة الكادحة و المسحوقة. ثورة سلبت الغربيين عنصر الترتيب و المباغتة فتهاوت أركان النظام فوق جثث الضحايا و الشهداء و كأنهم كانوا يطلقون النار على أنفسهم و صعقت عواصم التآمر الغربي و خاصة باريس.
لقد هبت رياح التغيير في تونس من أقصى الجنوب إلى أعالي الشمال دون الحاجة إلى دبابات الغرب أو الشرق و دون المرور بمحطة الإذاعة و التلفزة التونسية، إنه الدرس الجديد في ثورة الفقراء العزل الذين واجهوا رصاص الخيانة و الخونة و العملاء بصدور عارية تتطلع إلى الجنة و الشهادة في سبيل الله و الوطن. إن رياح التغيير في تونس كفيلة بان تشعل المنطقة العربية بكاملها فهي لا تحتاج لوقود غربي أو موافقات من العواصم الغربية و لكنها تحيى و تنمو بقوافل الشهداء و ليس هناك سبيل لهذه الأمة غير هذا الطريق. و لقد كان الكثير من المفكرين العرب محتارين في المخرج من أزمة هذه الأمة و هاهو الشعب التونسي يرسم الطريق و يلونها بدمائه الطاهرة الزكية.
و أهم درس من هذه المدرسة أو التجربة التونسية هو الرفض القاطع للاستخفاف بعقول هذه الأمة و بكرامتها و برجالها و بعلمائها، فعلينا رفض فكرة الرئاسة مدى الحياة بشكل قاطع و نهائي و علينا رفض أفكار و أسس التوريث الفرعوني و رفض اللعب و التلاعب بمصير الأمة فأعداء الأمة استأسدوا علينا و تكالبوا علينا و نحن نرزح تحت قيود العمالة أو التخلف أو القهر. فلقد هبت من تونس على المنطقة رياح النهضة و الديمقراطية و الحرية و التي في ظلها تتحقق الوحدة و العزة و الكرامة لهذه الأمة و على الشعوب أن تفيق من سباتها و صدق شابيى تونس عند ما قال:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
و كل ما تحتاجه الأمة في هذا الزمان هو إرادة الحياة و نبذ السبات أو الموت المؤجل فالنائم كالميت في الأحكام، إن المطلوب الآن هو الحراك من أجل النهضة الشاملة و هو روح الصحوة.
No comments:
Post a Comment