الهادي غيلوفي: باحث في التاريخ
مقدمة : لعل ما شهدته تونس في الأيام الأخيرة يجعلنا نتساءل عن مفهوم حقوق الإنسان في الدول السائرة في طريق النمو هل هي حقوق سياسية أو اجتماعية في ضل بلدا مشهود له بأن من اكثر الدول التي حققت علي الصعيدين العربي والإفريقي تقدما ملموسا في مجالي التعليم ومحاربة الأمية وهو مؤشر جيد ولكن هذه النسبة العالية من الشباب المتعلمين تفتح قوسين حول مصيرهم فلا شك إن اعتراف السلطة السياسية بوجود أزمة عمل ومحاولتها إيجاد الحلول الكفيلة للحد منها يعتبر الخطوة الأولي في الاتجاه الصحيح. فجل التونسيين يفتخرون بأن بلدهم تونس تتميز عن محيطيها العربي والإفريقي بامتلاكها رصيدا غنيا من النصوص القانونية في مجال حقوق الإنسان وذلك منذ منتصف القرن التاسع عشر أي بصدور عهد الأمان سنة 1857 الذي يعتبره البعض سبقا تاريخيا مقارنة بالمحيط العربي الإسلامي ومن ثم تم إعلان دستور 1861 الذي هو ترجمة لما نص عليه عهد الأمان فكلاهما ولد في ظروف داخلية ودولية استثنائية جعلتهما يركزان علي المساواة بين سكان المملكة علي اختلاف أديانهم حيث اغلب فصول الباب الثاني عشر من الدستور تستهل بالعبارات التالية جميع رعايانا علي اختلاف أديانهم [1] أو سائر أهل المملكة علي اختلاف أديانهم[2] أو سائر رعايانا علي اختلاف الأديان أو كل من ولد بالمملكة . كل هذه الفصول تؤكد علي مساواة المسلمين مع غيرهم مما يؤكد إن كل من عهد الأمان والدستور لم يصدرا من إرادة ذاتية للبايات رغبة منهم في إصلاح حقيقي مستجيبا لضغوطات شعبية مطالبة بتطوير الحقوق المدنية والسياسية في المملكة بل كان صدورهما استجابة لضغوطات خارجية تهدف إلي تمكين الأجانب من امتيازات تساعد دولهم من التغلغل عبرهم للسيطرة علي مقدرات البلاد الاقتصادية عبر سياسة القروض وغزو الأسواق المحلية بالبضائع الأوروبية في ضل اختلال التوازن بين الصناعة المحلية التي تعتمد علي وسائل إنتاج تقليدية وصناعة أروبية متطورة معتمدة علي انجازات الثورة الصناعية فلا غرابة أن يحتل الفرنسيين تونس بعد عشرين سنة فقط من سن الدستور (1861/1881) ليمارسوا مزيدا من النهب عبر إصدار القوانين والتشريعات التي تمنح معمريهم أخصب الأراضي والعديد من الامتيازات التي مكنتهم من استغلال ثورات البلاد .
إن القوانين والنصوص الدستورية الصادرة في تونس منذ عهد الأمان إذا ما تمت دراستها نظريا دون التطرق لتاريخ تونس يمكننا إن نستنتج أنها يمكن بان تكون قوانين ودستور ارقي الديمقراطيات في العالم وهذا ما يدفعنا لطرح مجموعة من الأسئلة حول هذه الإشكالية : هل عدم التطابق بين النص والممارسة يعود إلي تقدم النص أو فوقيته !أو إن هذه النصوص تم استنساخها من الخارج إرضاء له أو هل إن الواقع لم يستطع مجارات هذه النصوص.
1/ الريادة التونسية في مجال النصوص الدستورية: فالسبق التاريخي لا يعفينا من قراءة هذه التواريخ قراءة موضوعية استنادا لما نصت عليه هذه الدساتير إضافة إلي تم انجازه في منظومة حقوق الإنسان علي امتداد 150 سنة بعيدا عن كل تضخيم وتحجيم لهذا التاريخ الوطني الذي نود تناوله بروحية النقد التاريخي من زاوية اهتمامنا بتاريخ الأفكار والذهنيات لكي لا ندعي تفقهنا بالقانون. لعل بعض الذين سبقونا بالدراسة أعطوا أهمية كبري لعهد الأمان ودستور 1861 من خلفية تضخيم التاريخ الوطني التونسي وتميزه من زاوية غير حيادية باعتبار إن تونس رائدة وسباقة في مختلف المجالات عن بقية الأقطار العربية وهذه الحقيقة لا يمكن نفيها بالمطلق غير إننا نفضل عدم تضخيمها لان الوقائع التاريخية لا تسعفنا كثيرا لان تونس كغيرها من الأقطار العربية لم تحقق نهضة توازي النهضة الأوروبية أو اليابانية ولم تحقق تطورا في منظومة حقوق الإنسان يمكن مقارنتها بما حققته الدول الاسكندينافية بل إن ما حققته خلال القرن والنصف الأخيرين لا يختلف عن محيطيها العربي والإسلامي اللذين يحتلان مؤخرة القائمة الدولية حسب تصنيفات الأمم المتحدة .
فعهد الأمان صدر في ظرف دولي تميز باشتداد التنافس الأوروبي علي الأسواق الخارجية وضمن نظام مالي يتميز بارتفاع فوائد القروض التي تم إرهاق ميزانيات الدول المقترضة والتي تحكمها سلالات وعائلات مشهود لها بالفساد من خلال اعتمادها علي رجال دولة اغلبهم غير وطنيين استغلوا مناصبهم من اجل تكديس الثروات وحيازة الأراضي التي سيطروا عليها بمختلف الطرق الغير شرعية وكانت نهاية اغلبهم أما البيلكة أو الفرار واللجوء إلي الدول الأوروبية هروبا من العقوبات علي غرار ( نصير شمامة أو محمود بن عياد) وغيرهم فأمام ضعف البايات وحاجتهم الملحة إلي المزيد من القروض كان لزاما عليهم الخضوع لإرادة وطلبات الدول الأوروبية المقرضة والقيام بإصلاحات تخدم مصالح هذه الدول من خلال سن قوانين وتشريعات لصالح رعاياها الذين هم في الوقت نفسه أدواتها للسيطرة والتحكم في مصائر الشعوب .
كان كل من عهد الأمان والدستور احدي المداخل الضرورية للتغلغل الاستعماري فقد جاء عهد الأمان لخدمة الأجانب أكثر منه لتحقيق أمال وطموحات التونسيين في إحداث إصلاحات دستورية لأنهم كانوا يرزحون تحت نير منظومة تشريعية و جبائية قاسية أرهقتهم فاغلب قواعد عهد الأمان نصت علي حقوق الأجانب دون إن تشيرا إلي أي مكسب للموطنين التونسيين فقد نصت اغلب قواعد عهد الأمان علي حقوق الأجانب:
- القاعدة الأولي: تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان و الألسنة والألوان في أبدانهم المكرمة وأموالهم المحرمة وأعراضهم المحترمة إلاّ بحق وجيه نظر المجلس بالمشورة ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن أو الإذن بإعادة النظر.
- الثالثة : التسوية بين المسلم وغيره من سكان الإيالة في استخفاف الأنصاف.
- الرابعة : إنّ الذين من رعيتنا لا يجبر على تبديل دينه ولا يمنع من إجراء ما يلزم ديانته ولا تمتهن مجامعهم ويكون لها الأمان من الأديانة و الامتهان لأن ذمته تقتضي أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا .
- الثامنة : إنّ سائر رعيتنا من المسلمين وغيرهم لهم المساواة في الأمور العرفية والقوانين الحكمية لا فضل لأحدهم على الآخر في ذلك.
- العاشرة : إن الوافدين على آيالتنا لهم أن يحترفوا سائر الصنائع والخدم بشرط أن يتبعوا القوانين المرتبة والتي يمكن أن تترتب مثل ما تراهن البلاد لأفضل لأحدهم على الآخر بعد اتفاقنا مع دولهم في تبعية دخولهم تحت ذلك كما يأتي بيانه.
- الحادية عشر : إنّ الوافدين على إيالتنا من سائر أتباع الدول لهم أن يشتروا سائر ما يملكون في الدور و الأجنة والأراضي مثل سائر أهل البلد بشرط أن يتبعوا القوانين المرتبة والتي تترتب من غير امتناع ولا فرق من أدنى شيء من قوانين البلاد ونبين هذا كيفية السير بحيث أن المالك يكون عالما بذلك داخلا على اعتباره بعد الإستناف مع أحبابنا الدول
فالدارس لهذه القواعد يمكنه أن يدرك بأنها جاءت مفصلة على قياس رعايا الدول الأوروبية حيث تتكرر لفظة أنّ الوافدين على ايالتنا في القاعدة العاشرة والحادية عشر اللتان تنظمان عمل وتملك هؤلاء الوافدين والتي تساوي بينهم وبين السكان المحليين مع أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي لا ينبني بذلك فهؤلاء التجار الوافدين سوف يتمكنون دون أدنى شك من اكتساح سوق العمل التونسيّة لأنهم قادمون مسلحين بخيرات و إمكانيات لا تتوفر للسكان المحليين وسوف يتمكنون من امتلاك أفضل العقارات و الأراضي في البلاد التونسيّة لأنّهم قادمون بأموال من الخارج ويستغلون الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه البلاد الواقعة تحت المديونية وبذلك سوف يصبح الأجانب هم الفئة المهيمنة على اقتصاد الإيالة وسوف يتمادى دولهم الأوروبية في الضغط علي البابات حتى يتمكنوا من السيطرة على اقتصاد البلاد عن طريق الكومسيون المالي الذي تم إقراره بعد عشر سنوات من صدور عهد الأمان المذكور ( 1859 – 1869 ).
ولم يكن عهد الأمان سوي المقدمة أو الديباجة لدستور 1861 الذي يندرج ضمن نفس الرؤية وهي خدمة المصالح الخارجيّة أكثر منه خدمة لسكان الإيالة وقد نصت أغلب فصوله وخاصّة فصول الباب الثالث عشر الذي يقول بأن لرعايا أحبابنا الدول القاطنين بالمملكة التونسيّة من الحقوق وما عليهم.
فالفصل 109 ينصّ على ما يلي : لجميع رعايا الدول الأحباب الوافدين على المملكة التونسيّة والقاطنين بها الآمن والآمان التام في دينهم وعباداتهم.
كما ينصّ الفصل 106 على عدم التعرض لهؤلاء في ديانتهم ويحيل الفصل 107 على الركن الثاني لعهد الأمان فيما يخصّ الأمان التام لهؤلاء الرعايا في أنفسهم و أبدانهم.
فجل فصول الباب الثالث عشر في تؤكد على حقوق رعايا الدول الأحباب خاصّة الحقوق الشخصيّة والدينيّة لتمتد إلى حقوق العمل والملكيّة وهي ترجمة لما ورد في عهد الأمان ولكنها بأكثر دقة وتفاصيل حيث يؤكد الفصل 110 على حريّة الأجانب في العمل حيث يقول جميع رعايا الدول الأحباب لهم أن يحترفوا بسائر الصنائع و يجلبوا ما يظهر لهم من الآلات والمواعين على شرط أن يتبعوا سائر القوانين المرتبة الآن وما يمكن أن يترتب.
أمّا الفصل 112 فهو يعطيهم حق التجارة في كلّ شيء من نتائج المملكة و في كلّ شيء يؤتى به من خارجها.
فلا شكّ أنّ هذه الفصول تؤكد على ما ذهبنا إليه حيث ذكرنا أنّ كلّ من عهد الأمان والدستور 1861 – جاء مفصلين على قياس رعايا الدول الأحباب التي هي فرنسا و انكلترا والتي تجمعها بتونس قروض بشروط غير مجزية جعلت البايات يرضخون لضغوطاتها كي تفتح أمام رعاياها أبواب البلاد لنهبها ولتتمكن فرنسا تدريجيّا من التغلغل داخل المملكة عن طريق القروض والاتفاقيات التي ستعطيها مبرر إقامة كمسيون مالي سنة 1869 يراقب ميزانية البلاد لتتبعه بخطوة لاحقة سنة 1881 لاحتلال البلاد بقوّة السلاح لتجبر البايات على توقيع اتفاقية الحماية تحت التهديد ولتقوم في مرحلة لاحقة بجلب آلاف المعمرين الفرنسيين الذين سوف تمنحهم أفضل الأراضي و الامتيازات ليسيطروا على اقتصاد ومقدرات البلاد وليتمكن هذا الاستعمار من تجنيد آلاف من أبناء تونس في صفوف جيشه ليزج بهم في حروبه الخاصّة ليدافع أبناء هذه المستعمرة كغيرهم من أبناء المستعمرات عن العلم الفرنسي ليتقاتلوا فيما بينهم ليجلب السينغالي إلى تونس ليرعب التونسيين ويأخذ التونسي إلى سوريا ولبنان ليرهب أخوانه هناك.
لا شك أن الاستعمار الأوروبي استخدم مختلف الوسائل ليحتل البلاد العربيّة وكانت القروض والاتفاقيات والقوانين من أبرز الوسائل التي استخدمها لتحقيق غايته ومن الاحتلال المباشر فالمقدمات تختلف ولكن النتائج واحدة.
لا شك أنّ عهد الأمان ودستور 1861 يعتبران إضافة قانونية ودستورية في بلد مثل تونس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإن حققا بعض الإضافة على المستوى القانوني ويعتبرهما البعض عملا رياديّا مقارنة بالمحيط العربي الإسلامي غير إنّنا لا يمكن أن نغفل الأسباب والنتائج التي ترتبت عليهما و بالنسبة لأهل المملكة وللأجانب لا شكّ أنّ فائدتهما كانت أكبر للأجانب ولأنهما كان في اعتقادنا تلبية لرغبة القوي الخارجيّة لا تلبيه لرغبة شعبية محليّة لأنّ رعايا المملكة لم يكن البابات ليلتفتوا لرغاباتهم لأنهم كانوا منغمسين في تلبية حاجاتهم الخاصّة والتي كلفت أبناء المملكة أموالا طائلة أجبروا على تسديدها مع فوائدها الكبيرة دون أن يستفيدوا من هذه الأموال وواصلت البلاد إلى أزمة اقتصاديّة حادة دفع ثمنها مرّة أخرى أبناء المملكة دون أن تمس مصالح البايات الذين وقعوا على اتفاقيّة الحماية التي حافظت لهم على امتيازاتهم ومداخليهم وجعلت البلاد تحت حماية واحتلال قويّ خارجيّة ودفع أبناء البلاد ثمنها هذه الحماية التي استمرت 75 سنة .ليتمكن الشعب التونسي من دحر هذا الاحتلال بعد تضحيات جسام دفع ثمنها أبناء الأرياف والمدن والمثقفين وهو دفع الزعيم الحبيب بورقيبة للتخلص من للبابات أقدم إعلان الجمهوريّة منهيا بذلك حكم الأسرة الحسينية.
2 / الجمهوريّة التونسيّة ودستور 1959 :
تعد ولادة الدستور الذي صدر في غرة جوان 1959 والذي حمل في فصوله مبادئ حقوق الإنسان وتبنى أغلب المبادئ التي جاء بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مكسبا كبيرا لأنّ " ممثلو الشعب التونسي بالمجلس القومي التأسيسي الذي عهد إليه بوضع دستور الدولة التونسيّة المستقلة التي هي ثمرة كفاح ونضال الحركة الوطنيّة المجيدة إلى الربط بين النظام الجمهوري الذي تمّ تفضيله واختياره لكفالة حقوق الإنسان حيث جاء بتوطئة الدستور " " إنّ النظام الجمهوري خير كفيل لحقوق الإنسان " وعلى ذلك الأساس تضمن الدستور أحكاما تعلقت بعدة أنواع من حقوق الإنسان كما انطلق التشريع منذ الاستقلال في بلورة عدد من الصيغ لكفالة حقوق الإنسان في مجالات متنوّعة "[3]
هذا على المستوى النظري فالنصوص وفصول الدستور تؤكد على علوية حقوق الإنسان وما توقيع تونس على الإعلان العالمي هذا الإعلان الذي ولد 1948 وبقي محافظا على قيمته المعنويّة الفائقة، كما بقي موضع اهتمام المجتمع الدولي الذي يعتبره مرجعا أساسيّا في مجال حقوق الإنسان بالرغم من أنّ هذا الإعلان لم يكن نتيجة مناقشات ساهم فيها أطراف من مختلف الثقافات والحضارات الموجودة في العالم بحكم الوضع الذي كان قائما في العالم في الفترة من 1944 – 1948 وهي الفترة التي سعى فيها البعض إلى وضع ذلك الإعلان. لكن مهما كان الأمر لا يمكن إنكار الأهمية المعنوية والتي تعززت معانيه بالمعاهدتين الدوليتين وهما : العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسيّة المؤرخ في 16 ديسمبر 1966 والذي دخل حيز النفاذ في 23 مارس 1976 والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافيّة والمؤرخ في 16 ديسمبر 1966 والذي دخل حيز النفاذ أيضا في 3 جانفي 1976. فهذين العهدين يعتبرهما البعض بأنهما إفراغا مضامين الإعلان العالم لحقوق الإنسان .
إضافة إلى العديد من المعاهدات التي تناولت جوانب محددة من حقوق الإنسان المعلن عنها بصورة إجماليّة ومن بينها إعلان طهران 13 ماي 1968 والذي جاء على إثر المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان الذي عقدته الأمم المتحدة في طهران عام 1968 والذي شدد على احترام جميع الدول للإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث أكد إعلان طهران على ما يلي " إنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يمثل تفاهما تشترك فيه شعوب العالم.
لذلك فإنّ الدستور التونسي جاء منسجما " إلى حد كبير مع مبادئ وذلك الإعلان وخاصة الحقوق السياسيّة التي هي جوهر دراستنا ولعل التحويرات الدستورية اللاحقة التي أدخلت علي دستور1959 كانت أكثر وضوحا فعلى سبيل المثال قدم الإصلاح الدستوري الجوهري سنة 2002 إضافات إلى نفس الدستور فيما يخص حقوق الإنسان فلقد رتب القانون الدستوري الجوهري. إضافة ثلاث فقرات لمضمون الفصل 5 من دستور غرة جوان 1959 تمثلت في الفقرات الثلاث الأولى وقد جاءت الفقرتان الأوليتان منهما متعلقة بصورة مباشرة بمسألة حقوق الإنسان وهاتان الفقرتان هما : " تضمن الجمهورية التونسيّة الحريات الأساسيّة وحقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها وتكاملها وترابطها ". " تقوم الجمهوريّة التونسيّة على مبادئ دولة القانون و التعددية تعمل من أجل كرامة الإنسان وشخصيته ". [4]
هذه الإضافة جاءت منسجمة مع ما تركوا إليه تعوض دولية من بينها " إعلان وبرنامج فينا " والتي تضمنت فقرته رقم 5 إن جميع حقوق الإنسان عالميّة وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتشابكة ولعلّ من أبرز ما شدد عليه المواثيق الدوليّة هي كرامة الإنسان وقد جاء الدستور التونسي كذلك منسجما مع الإعلان العالمي حيث أنّ توطئة الدستور التونسي تضمنت تأكيدا صريح لكرامة الإنسان.
حيث ورد فيها أنّ الشعب التونسي مصمم على إيلاء كلّ الأهميّة لكرامة الإنسان إضافة إلى إيلاء كامل الأهميّة لقيّم أخرى أساسيّة تصب في الواقع في تعزيز كرامة الإنسان " [5]
فهذه التوطئة تبدوا منسجمة إلى حد كبير مع ما نصت عليه المادّة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على إن " يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا " بروح الإخاء "
ولكي لا تضيع في تفاصيل النصوص الدستوريّة فإنّنا سوف نكتفى بعرض بعض فصول الدستور والتنقيحات التي أدخلت عليها في القانون الأساسي عدد 51 لسنة 2002- لتقوم بعد ذلك بتحليلها وشرحها ومن ثمّ تحليلها لنأكد على إنّ هذه الفصول تعتبر متقدمة فيما[1] يتعلّق بحقوق الإنسان من الناحية النظريّة لنقوم بعد ذلك بمقارنتها ومقاربتها ببعض الممارسات الفعليّة والتي تؤكد على عدم احترام روح هذه الفصول.
فالفصل 5 ( جديد ) ينصّ على ما يلي : تضمن الجمهورية التونسيّة الحريات الأساسيّة وحقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها وتكاملها وترابطها وتقوم الجمهورية التونسيّة على مبادىء دولة القانون والتعدديّة وتعمل من أجل كرامة الإنسان وتنميّة شخصيته . تعمل الدولة والمجتمع على ترسيخ قيّم التضامن والتآزر والتسامح بين الأفراد والفئات والأجيال.
الجمهوريّة التونسيّة تضمن حرمة الفرد وحريّة المعتقد وتحمي حريّة القيام بالشعائر الدينيّة ما لم تخل بالأمن العام[6].
الفصل السادس : كلّ المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون [7]
الفصل السابع : يتمتع المواطن بحقوقه كاملة بالطرق والشروط المبينة بالقانون ولا يجد من هذه الحقوق إلاّ بقانون يتخذ لاحترام حقوق الغير و لصالح الأمن العام والدفاع الوطني. ولازدهار الاقتصاد وللنهوض الاجتماعي [8]
الفصل الثامن ( جديد ) : حرية الفكرة والتعبير والصحافة والنشر و الاجتماع وتأسيس الجمعيات مضمونة وتمارس حسبما يضبطها القانون والحق النقابي مضمون. " تساهم الأحزاب في تأطير المواطنين لتنظيم مشاركتهم في الحياة السياسيّة وتنظم على أسس ديمقراطيّة وعليها أن تحترم سيادة الشعب وقيّم الجمهوريّة وحقوق الإنسان والمبادئ المتعلقة بالأحوال الشخصيّة وتلتزم الأحزاب بنبذ كلّ أشكال العنف والتطرف والعنصريّة وكلّ أوجه التمييز. ولا يجوز لأيّ حزب أن يستند أساسا في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة تحجر تعبئة أي حزب إلى أطراف أو مصالح أجنبية. بضبط القانون تكوين الأحزاب و تنظيمها [9]
الفصل التاسع ( جديد ) : حرمة المسكن وسرية المراسلة وحماية المعطيات الشخصيّة مضمونة إلاّ في الحالات الاستثنائية التي يضبطها القانون.[10]
الفصل العاشر : لكلّ مواطن حريّة التنقل داخل البلاد وإلى خارجها واختيار إقامته في حدود القانون.
الفصل الحادي عشر : يحجر تغريب المواطن عن تراب الوطن أو منعه من العودة إليه.
لعلّ الدارس لهذه الفصول يلحظ تكرار ( في حدود القانون ) ( والتي يضبطها القانون ) و( حسبما يضبطه القانون ) و ( ما لم تخل بالأمن العام ) كلّ هذه العبارات تبدوا مبهمة ويمكن التسلل عبرها و تأويلها لتجاوز القانون وعلى سبيل الذكر فإنّ حريّة الفكرة والصحافة والنشر والاجتماع و تأسيس الجمعيات مضمونة وتمارس حسبما يضبطه القانون وهذا ما جاء به الفصل الثامن الجديد. ولكن على مستوى الممارسة لا نعلم كيف أنّ حريّة الصحافة مضمونة مع شكوى اغلب العاملين في هذا القطاع رغم مرور أكثر من خمسين سنة علي الاستقلال
فالصحافة المكتوبة تعانى من ضعف بنيوي يتمثل في اعتماد اغلب أصحاب الصحف علي محررين تنقصهم الخبرة والمهنية لا لشيء إلا لأنهم يقبلون بأجور متدنية. فاغلب الصحف صحف شخصية او عائلية غايتها الربح ولا يمتلك أصحابها رؤية أو رسالة أمّا مؤسسات المجتمع المدني فإنّها لا تتمتع بالاستقلالية والحرية وتعمل السلطة لاستخدام وسائل ملتوية لشل حركة أي جمعية أو منظمة حقوقيّة ولعلّ أزمة الرابطة التونسيّة لحقوق الإنسان تلخص سياسة السلطة التي تشمل عمل أي جمعية لا تخضع لإرادتها فالرابطة التي أسسها حقوقيين منذ سنة 1977 و التي انتهجت الدفاع على حقوق المساجين والعمال المطرودين ووقفت أمام السلطة وعندما فشلت السلطة من إخضاعها قررت غزوها بطرق تبدوا قانونيّة وذلك عن طريق الإيعاز للمئات من مناصريها بالانتساب لها حيث تطور عدد المنتمين من 80 عضوا سنة 1977 إلى 4800 عضو سنة 1994 عندما قررت السلطة إحداث انقلابا " أبيض " من أجل الاستيلاء على الرابطة من الرابطيين الذين أصبحوا أقلية داخل منظمتهم بعد أن كانت السلطة تقوم بحملات انتساب قسرية من خلال إرسال عرائض عن طريق عدول تنفيذ تحتوي على مئات المنتسبين الجدد وعندما رفضت هذه الانتسابات السلطوية وعقدت الرابطة مؤتمرها التجأت السلطة لوسائل أكثر عدوانيّة وذلك عن طريق رفع أكثر من قضية قضائيّة أمام المحاكم للطعن في مشروعية مؤتمر الرابطة وللمطالبة بالحجر القضائي على مقر الرابطة وبالتالي تمكنت من شل حركتها عقابا لها عن مواقفها الغير مرضى عنها ولعل الخطوة الأخيرة لرئيس الجمهورية والداعية لحل مشكلة الرابطة يعد خطوة جد ايجابية يمكن أن تساهم في تنفيس الاحتقان بين السلطة والرابطيين .فبعض بعض الممارسات الملتوية المتمثلة في الالتفاف على القانون تجعل النصوص الدستورية فارغة من محتواها .
فالفصل الثامن ( الجديد ) من الدستور الذي ينص على حرية الفكرة والتعبير والصحافة والنشر و الاجتماع وتأسيس الجمعيات مضمونة وتمارس حسبما يضبطها القانون .
فاغلب الأحزاب السياسيّة المرخص لها تفتقد للقواعد الشعبية لعدة اعتبارات لعدم مصداقيتها فهل هي معارضة فعلا فالسلطة تمنح لها المناصب والمقاعد داخل البرلمان لا طبقا لقوتها الانتخابية بل باعتماد نظام ( الكوتا ) فحصول حزب ما على مقاعد برلمانية لا يأتي في الغالب منسحبا " مع الأصوات التي يحصل عليها مشرحوه أو حتى عدد منخرطيه بل نتيجة رضا السلطة وهذا دائما يحدث بشكل خفي ولكن المتتبع للحياة السياسيّة في تونس يكتشف بان هذه الأحزاب لا تتمتع بأية مصداقية في الشارع التونسي. وهو ما يجرنا لاستعراض النصف الثاني من الفصل الثامن ( جديد ) القائل بما يلي " تسهم الأحزاب في تأطير المواطنين لتنظيم مشاركتهم في الحياة السياسيّة. فالأحزاب بناء على الواقع المعاش تقترن بالعمل والترقية المهنية والمساعدة الاجتماعية .
أمام هذا المشهد السياسي المتميّز بديمقراطيّة الديكور بوجود أحزاب معارضة لها نواب في البرلمان . فهذه الأحزاب لا تمتلك قوة شعبية في الشارع فأي حزب منها لا يمكنه الوصول للبرلمان دون الكوتا الممنوحة للمعارضة . فهذه الأحزاب مشكلة من تكتلات عائلية ومناطقية ويتزعمها أشخاص نكرة لا رصيد نضالي ولا مستوي علمي مرموق فلا احد منهم يمتلك شهادة الماجستير أو الدكتوراه فأفضلهم يحمل شهادة الأستاذية ، و اغلبهم يعمد علي تحقيق مكاسب شخصية من خلال تشغيل أقاربه لا المنتسبين لحزبه مما يجعل اغلب الشباب ينفر منهم ولا يتحمس للانتساب لهم ويفضل الانتساب للحزب الحاكم .فأغلب رؤساء هذه الأحزاب يسعى لتمكين أقاربه فتجد أخاه أو زوجته عضوا في مجلس النواب رغم مستواهم التعليمي المتواضع وسيرته الذاتية الغير نقية . أما صحفهم فهي محدودة الانتشار لعدم تناولها قضايا الناس وهي حكرا علي بعض الأقلام المحسوبة علي الحزب فهي بالنسبة إليهم مصدرا من مصادر المال فقط لا غير، فهم لا ينفقون نصف التمويل الذي تخصصه الدولة لهم ولا احد يعلم أين تذهب بقية المبالغ. آما بقية أقاربه فيحصلون علي الوظائف ويتمتعون بما يسمي "التفرغ الحزبي"
أما منظمات المجتمع المدني فرغم وجود أكثر من 15000 ألف جمعية في تونس وهي معايير لها دلالتها لدى الدول الغربية فعدد الجمعيات في تونس يتجاوز عددها في فرنسا ولكن هذه الجمعيات التي لا يتجاوز عدد منتسبي بعضها العشر أفراد و لا تقدم أي خدمة للمواطن بل إنها تحصل على التمويل العمومي وتستنزف أموال المجموعة الوطنية لتصرفها في الرحلات لأعضائها . فلا عمل لهذه الجمعيات سوي إرسال برقيات التهنئة والمناشدة فقط لا غير ويتم تحريكها مناسبتيا فهل هذه هي منظمات المجتمع المدني الذي تعبر عن الإرادة الشعبية .
لا شك أنّ المتأمل لتاريخ حقوق الإنسان في تونس يدرك جيّدا مدى التناقض بين التراث الحقوقي والدستوري و ما احتوته الدساتير السابقة من عهد الأمان إلي دستور 1861 و صولا لدستور 1959 والتنقيحات المحدثة عليه في الفترات اللاحقة فهذه النصوص مع تنقيحاتها إذا ما طبقت يمكن أن تتجاوز تونس في مجال حقوق الإنسان أرقى الديمقراطيات كإنكلترا و سويسرا أو الدول الإسكندنافية ،ولكننا في الواقع نلحظ أن جمهورية الكونغوا ومالي والسينغال ونيجيريا والسلفادور وغيرها قد تجاوزتها بأشواط من خلال الديمقراطيات التناوبيّة والمجالس النيابية والحكومة المسئولة أمام برلمانياتها .
ولا شك أنّ ملف تونس في مجال احترام حقوق الإنسان تعد من الملفات الملفتة للانتباه فرغم مبادرة تونس للتوقيع على مختلف الاتفاقيات الدولية المناهضة للتعذيب وغيرها ولكن ما يحدث في الواقع بعيد كلّ البعد على ما نصت عليه مختلف الاتفاقيات وما يؤكد ما ذهبنا إليه شهادات قمنا بتوثيقها سابقا مع بعض الذين تعرضوا للمحاكمات خلال فترة بورقيبة أكدت كلّ هذه الشهادات على المحاكمات الغير العادلة التي تعرضوا لها وتعرضهم للتعذيب و الانتهاك لحريتهم و لكرامتهم حيث أكدّ لنا أحد الذين حوكموا المقاومين الذي اختار الشق اليوسفي أنّ رئيس المحكمة أصدر ضده حكما بعشرين سنة أشغال شاقة مع عدم ثبوت التهمة عليه [11] .
وهو ما يدفعنا للتساؤل حول المحاكمات السياسيّة في بلد ينص دستوره على احترام حرية حقوق الإنسان و تاريخه يشهد بمحاكمات سياسيّة لم يستثنى أيّ طرف سياسي خلال 31 سنة من تاريخ دولة بورقيبة التي افتتحت 1956 بمحاكمة واختتمت سنة 1987 بمحاكمة لا رابط بينهما سوى أنّ من حوكموا في كلّ هذه المحاكمات اتهموا بالانتماء لمنظمات غير معترف بها. فالمحاكمات ابتدأت سنة 1956 بمحاكمة المعارضة اليوسفيّة نتيجة صراع سياسي وعنف وإيقافات و محاكمات متتالية شملت المئات من اليوسفيين وكانت الأحكام قاسية لرفاق الأمس[12]. لتمتد المحاكمات وتشمل سنة 1967 الحركة الطلابية المحتجة على العدوان الإسرائيلي الأمريكي على مصر وقد شملت هذه المحاكمة مختلف التيارات من قومين و بعثيين و يسارين [13]لتعود السلطة مرّة أخرى لتلجئ للقضاء سنة 1969 لتحاكم عن طريق محكمة أمن الدولة مجموعة اليسار الطلابي المنظمة في تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي و مجموعة برسيكف ) بتهمة تكوين جمعيّة غير مرخص لها و ثلب رئيس الدولة ،و المسّ بأمن الدولة[14]. ثم تلتها محاكمات 1977 لعدد من الطلبة والتلاميذ اليساريين أو ما يطلق عليهم ( مجموعة العامل التونسي ) بتهمة تكوين منظمة غير معترف بها، والتحريض على العنف والمس بأمن الدولة و الإضرار بأملاك الغير.
- محاكمات جانفي فيفري 1978 : محاكمة 150 إطارا من الإتحاد العام التونسي للشغل بتهمة التآمر على أمن الدولة، إثر أحداث جانفي والأحزاب العام ( مقتل 51 شخصا و جرح 400 حسب الأرقام الرسميّة).
- لتتختم هذه السلسلة من المحاكمات بمحاكمة الإسلاميين 1981 – 1987 بنفس التهم- الانتماء لجمعية غير مرخص لها واستعمال العنف والتظاهر في الطريق العام[15].
لكن اللافتة للانتباه هو أنّ تونس رغم إدءاتها الالتزام بالمواثيق الدولية ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص في مادته الخامسة على ما يلي " لا يتعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية الخاصة بالكرامة " فإنّه من الناحية النظرية فتونس ملزمة بتطبيق هذه المادّة ولذلك فإنّ التشريع التونسي لا يسمح بالتعذيب حتى قبل الارتباط سنة 1988 بالاتفاقية الخاصّة بمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو الإنسانيّة أو المهنيّة.
و لكننا عمليّا نجد أنّ كل الذين تمت محاكمتهم في قضايا سياسيّة يؤكدون على أنهم تعرضوا لشتى أنواع التعذيب ولعلّ الشهادات التي أدلى بها أعضاء حركة برسبكتيف تغني عن التعليق ونورد شهادتين أولهما للسيّد عمار الزمزمي العربي الذي وثقنا شهادته ضمن عمل جماعي صدر مؤخرا من مؤسسة التميمي العلمي حول حركة برسبكتيف حيث يقول " قد استعملوا معنا أثناء الاستنطاق الترغيب والترهيب لانتزاع الاعترافات. وكانت عمليات التعذيب ترمي إلى معرفة أكبر عدد ممكن من أسماء أعضاء التنظيم" [16]هذه الشهادة تعبر عن حالة الترهيب و الإكراه وقد عبر غيره عن هذه الحالة ففي شهادة رفيقة الهاشمي الطرودي في نفس المرجع يقول ما يلي " أهدي هذه الورقات إليكم جميعا إلى تلك الأجيال المناضلة التي امتزجت في أعماق نفوسها مسرات ومتع النضال بأحزان وعذابات السجون والمنافي إلى تلك الأجيال التي قاست شتى ألوان القمع و الاضطهاد والحرمان، ولم نتبجح بنضالات لأنّها ببساطة لا تريد جزاء ولا شكورا إلى تلك الأجيال التي سكنها الحلم بغد أفضل وتونس أجمل، ولكن رعبها هول الجلادين وهم يرسمون صورة لتونس أبشع و أظلم، إلى عائلات المساجين التي صبرت وصابرت وتجرعت معنا مرارة الظلم والعنف و الإذلال، شهدنا سويا مذبحة الحرية والحق والعدل يروي تفاصيلها قضاة أفاضل اغتيل في ضمائرهم معنى الإنسان و الابتسامات الكئيبة و أحزان القلوب النازفة، لم تمنعهم من التلويح بعلامات النصر، إلى كلّ الأصدقاء تونسيون و أجانب من شاركونا المحنة و تألموا لمذبحة الحرية والحق، فأبوا إلى أن يصرخوا بالحقيقة و يصرخوا أمام الناس : لا تصدقوا القول ، أصحابنا ليسوا خونة، ولا جراثيم ولا خفافيش ظلام ولا ممن في قلوبهم مرض، إنهم آدميون مثلكم يأكلون التمر ويمشون في الأسواق "[17].
وكم أردنا أن نستعرض المزيد من الشهادات فإنّها كثيرة ولكننا نكتفى بهاتين الشهادتين اللتين تعبران عن بقية الشهادات حيث أنّ جلّ من حوكموا اعترفوا بأنهم تعرضوا للتعذيب والترهيب وإن محاكماتهم سياسيّة بامتياز فهي محاكمة أفكار لا مقاضاة أفعال. ولم يسلم من هذه المحاكم الفنانين والمسرحيين الذين عبروا عن هواجس الشعب التونسي على خشبة المسرح لا داخل غرف مغلقة ولا جمعيات غير مرخص لها بل أمام الجمهور وكان الهدف من توقيف الفنانين إسكات أصواتهم حيث تم توقيف كلّ من الأمين النهدي ونور الدين بن عياد على إثر عودتهم يوم 9 أوت1981 من جولة في الخارج ضمن مسرح المغرب العربي بتهمة الاعتداء على كرامة رئيس الدولة، وسجنا بمحلات الشرطة بالقرجاني واستنطق من قبل شرطة مقاومة الإجرام، ثم أطلق سراحهما يوم 21 أوت.
وقد عيب عليهما الشغب الذي تنطوي عليه بعض السكاتشات " الواردة في آخر إنتاج هزلي لهما " الفرجة " حيث وجهت لهم عدّة أسئلة منها في إحدى سكاتشاتكم أعطيتهم رفيقتكم قطعة نقديّة، وطلبت منه ابتلاعها، لكنه حاول دون جدوى، فأخذتم تصيحون في وجهه : أسيادك ابتلعوا الملايين ! ماذا تقصد بهذا ولقد كان الإيقاف مشفوعا بمنع نشاطات فرقتي مسرح قفصة والمغرب العربي " إلى أن يأتي ما يخالف ذلك "[18]. فهذه الإجراء كان الهدف منها إضعاف المسرح التونسي ولجم كفاءته الشابة إن بإمكانها التعبير بحرية في إطار التفتح الذي دعت إليه حكومة مزالي [19]كلّ هذه الممارسات تتم في ظل دولة تتبنى في دستورها فصل ( الفصل الثامن جديد ) يقول بأنّ حرية الفكرة والتعبير والصحافة والنشر والاجتماع وتأسيس الجمعيات مضمونة تمارس حسبما يضبطها القانون "[20]
.بالعودة إلى موضوع التعذيب فإن التجاوزات في تونس تعد كبيرة حيث أن بعض القضاة لا يتصرفون بما يمليهم عليهم واجبهم المهني حيث أنّه بالرغم من ظهور آثار التعذيب على جسم المتهم لا يحرك القاضي ساكنا " ولا يأذن بفتح بحث في الموضوع والحال أن الأمر يمس أسس ومعالم المحاكمة العادلة على مستويين على الأقل المستوى الأوّل يتعلق بالمس من حق أساسي هو الحرمة الجسديّة ومنع التعذيب ومستوى ثان يتعلق بقيمة والاعترافات والتصريحات التي انتزعت تحت التعذيب أو حتى تحت طائلة الإكراه الأدبي " [21]
فالدستور التونسي يمنع التعذيب وأصبحت الحماية من التعذيب تحتل مرتبة متميزة بعد تنقيح الفصل 12 من الدستور ويحرم القانون التونسي ما يرتكبه الموظف العمومي أو شبه من تجاوز حد السلطة فجاء بالفصل 101 من المجلة الجنائيّة أن " كلّ موظف عمومي أو شبهه يرتكب بدون موجب نفسه بنفسه أو بواسطة جريمة التعدي بالعنف على الناس[22] حال مباشرته لوظيفته أو بمناسبة مباشرتها يعاقب بالسجن مدة 5 أعوام " كما نصّ الفصل 103 من نفس المجلة على معاقبة الموظف الذي يتعدى على حرية غيره الذاتية أو يباشر بنفسه أو بواسطة غيره ما فيه من عنف أو سوء معاملة ضد متهم أو شاهد أو عريف للحصول منهم على الإقرار أو التصريح ... ".
ويعتبر الفصل 101 مكرر من المجلة الجنائية المحدث بموجب قانون 2 / 8 / 1999 أبلغ نص يدين التعذيب بشكل واضح إذ نص صراحة على إدانة التعذيب ومعاقبة مرتكبة " يعاقب بالسجن لمدّة 8 سنوات الموظف العمومي أو شبهه الذي يخضع شخصا للتعذيب وذلك حال مباشرته لوظيفته أو بمناسبة مباشرته له. إنّ حقوق الإنسان يقتضي صيانة أمن الفرد وضمان كرامته ومنع تعذيبه ونبذ كلّ أنواع التعسف المسلطة عليه ولقد عرف المشرع التونسي صلب الفصل 101 مكرر من المجلة الجنائية التعذيب بما عرفته به الاتفاقية الدولة لمناهضة التعذيب وغيره من ظروف المعاملة أو العقوبة القاسية أو للإنسانية أو المهنية التي تمّ التصديق عليها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10 / 12 / 1984 و إثرها صدقت عليها الحكومة التونسيّة بمقتضى الأمر عدد 1800 والمؤرخ في 20 / 12 / 1988 من كونه " كلّ عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديّا كان أو عقليّا يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول منه أو من غيره على معلومات أو على اعتراف أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو غيره أو تخويفه ". إن إدانة المشرع للتعذيب ومعاقبة مرتكبيه تدلّ على تطوّر إيجابي يتمثل في عدم إنكار حصول التجاوزات بل العمل على القضاء عليها. كما يبرز هذا التطوّر التشريعي إن التعذيب ظاهرة خطيرة النتائج يجب التصدي لها.
خاتمــــــة :
إن تطبيق الفصل 101 و 101 مكرر كفيلان بلجم جماح الذين يتعمدون تجاوز النصوص القانونيّة إن حقوق الإنسان في تونس وإن كانت بحاجة ماسة دائما للتطور التشريعي الهادف لحماية هذه الحقوق بقدر ما هي محتاجة لتطور الذهنيات التي يجب أن تستوعب أن لا قيمة لوطن لا يحترم حقوق أبناءه ويكفل كرامتهم فالنصوص الدستورية والقانونيّة غير كافية إذا لم نصل إلى درجة من الوعي بأهميّة كرامة الإنسان وحقوقه فهذا الإنسان الذي كرمه اللّه على سائر خلقه ليس اعتباطيا بل لأنّه يستحق ذلك التكريم ولكن من يتعدى على كرامته هو أخاه الإنسان الذي يتحوّل إلى وحش كاسر عندما أصبح يتحمل المسؤولية فبدل أن يسعى هذا الإنسان إلى احترام مرؤوسيه يعمل على ترهيبهم وإكراههم.
فحقوق الإنسان في تونس وفي الوطن العربي ترتبط ارتباطا عضويا دون شكّ بمشكلة مشروعية السلطة فكلّ سلطة لا تستمد مشروعيتها من الشعب مباشرة فإنّها لن تسعى لاحترامه لأنّه غير جدير بالاحترام لأنه سمح لها بالتحكم في مصيره دون موافقة فعندما يصبح المواطن العربي مدركا لأهميّة مسألة المشروعية الشعبيّة فإنّ السلطة سوف تعمل جاهدة لاحترامه وتوفير ظروف حياة أفضل له من أجل نيل رضاه لتستمر وطالما بقي هذا الإنسان غير فاعل فإنّ حقوقه ستضل غير محترمة.
[3] توفيق بوعشبة : تونس والإعلان العالمي لحقوق الإنسان : كتاب الحرية الكتاب عدد 9 تونس ديسمبر 2008 ص 5 .
[9] القانون الدستوري عدد 65 المؤرخ 27 أكتوبر 1997 المتعلق بتنقيح و إتمام بعض الفصول من الدستور الرائد الرسمي للجمهورية التونسيّة عدد 87 المؤرخ في 31 أكتوبر 1997 الصفحات 2053 – 2054 .
[11]الهادي غيلوفي : قراءة في نهاية حكم بورقيبة من خلال تداعياتها على ذكره بعض السجناء السياسيين في عهده- ضمن كتاب جماعي أعمال المؤتمر الخامس حول نهاية حكم بورقيبة والقيادات السياسة العربيّة بين العهود و الإنحدار – منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي تونس ص 247.
[16]الهادي غيلوفي : شهادة شفاهية مع السيّد عمار الزمزمي أحد مناضلي تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي ضمن كتاب جماعي الدور السياسي والثقافي لبرسكتيف و البرستكتيفيين في تونس المستقلة – منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمنشورات تونس 2008 ص 200 .
[21]عبد الرحمان كريم و آخرون : الحق في محاكمة عادلة في تونس ضمن كتاب الحق في المحاكمة العادلة في العالم العربي منشورات المعهد العربي لحقوق الإنسان تونس 2004 ص 111.
من الصعب دراسة المستند هذا لطوله.
ReplyDeleteولكن من الواضح بأن واقع تونس يختلف عن مايوجد في هذا المستند