Wednesday, January 9, 2013

فضيلة الوفاء



لقد نشرت هذا المقال في صفحة ليبيا وطننا بتاريخ 15 أبريل 2010م

قديما قالوا: الاعتراف بالحق فضيلة، و هذا يعنى الاعتراف بحق الآخرين على المرء، أو القبول بكل ما هو حقيقي من آراء و أفكار. و إذا كان هذا فضيلة فإن الاعتراف بفضل الآخرين على المرء يكون من أفضل الفضائل، و هذا يمثل أقل مستويات الوفاء لأهل الفضل علينا، و الله سبحانه و تعالى يقول في محكم كتابه:
 "و لا تنسوا الفضل بينكم ". 

و الوفـــاء في مجمله هو اعتراف بالفضل و أداء ما يترتب من واجبات علينا نحو أولى الفضل سواء بالنسبة لهم أو لمن يهمهم أمره. و كل منا ناله نصيب من فضل ممن عاش معهم أو بينهم أو بهم و لهم، و ينبني على هذا الفضل حقوق و التزامات يجب الوفاء بها.

فالوطن الذي ترعرعنا بين ربوعه و امتزج حبه في قلوبنا مع كل نفس و كل خطوة مشيناها فيه؛ له علينا دين كبير و حق يجب أن لا ننساه، و العلاقة بالوطن لا تتحدد بالمكاسب الشخصية ، بل هو قضية انتماء جذري، و حب الوطن واجب في أحلك الظروف و أصعبها ناهيك عن أوقات الرفاهية و السعة. و لو أدرك كل واحد منا وفكر ملياً في أفضال وطنه عليه لأدينا الواجب و زيادة . كيف لا و قد ضحى أجدادنا وآباؤنا بأرواحهم في سبيل عزة هذا الوطن و كرامته
وعلى دربهم سار أحفادهم الذين سطروا تاريخ نضالهم بدمائهم الزكية خلال الثورة المباركة سنة 2011م.
 و أفضل الوفاء هنا يكون في الاحتفال بيوم الشهداء أو يوم الوفاء، و ليكن ذلك في السادس عشر من سبتمبر من كل عام في ذكرى إعدام شيخ الشهداء عمر المختار.  وقد من الله عليّ بأن كنت حاضرا في اجتماع مجلس الوزراء الموقر في حكومة السيد الكيب يوم تحديد العطلات الرسمية واقترحت هذا على المجلس ووافق بالإجماع والاستحسان للفكرة.
 و كي يكون الاحتفاء بالذكرى كاملا؛ أرى أن نخصص ذلك اليوم لزيارة قبور الشهداء و مواقع المعارك في كامل التراب الليبي و داخل معسكرات القوات المسلحة، بحيث تنظم زيارات مدرسية و مهرجانات بهذه المناسبة و بهذا نعلم أجيال المستقبل درسا في الوفاء و قدسية الاستشهاد و الشهداء في قلوبنـا.

ولقد كان تعلق الإنسان الليبي بوطنه  واضحا عبر الأجيال ، إذ ترويها حكايات الأولين وترنموا بها في قصائد و بيوت الشعر الشعبي ، و منها ما قاله( مواطن ليبي في المهجر) عندما اضطرته ظروف الحرب إلى أن يهاجر إلى العراق بعد استشهاد عدد كبير من أفراد عائلته إثر هجوم إيطالي مدبر على بيت عائلة جعودة في مدينة بنغازي.

حيث قال المواطن أبو بكر جعـودة:

على وطنكن نا ما ننهاكن ... سيلن بدم كان فاض إوعاكن

 كلمات تسيل منها الدموع شوقا و حنينا إلى الوطن الحبيب في كل وقت و حين  عند كل من يجرى في عروقه حب البلاد و كل من تغرب يعرف هذا الإحساس في نفسه. و خلاصة البيت المذكور أن الشاعر يأمر عينيه أن تسيلا بالدم إن جفت مآقيها عن الدموع بكاء على وطن مزقته الحروب واستباح دياره الطليان و عملاؤه.

ثم بعد الوطن يأتي دور الوالدين في رعاية و تنشئة المرء طوال حياته، و هنا يكون الحد الأدنى للوفاء في رعايتهما عند الكبر و عدم استغلال ضعفهما في نهاية العمر للاستيلاء على أموالهما و أملاكهما بغير حق ، و بالتالي حرمان بقية الأخوة و الأخوات من حقوقهم. أما بعد و فاتهما أو و فاة الأب بالذات يجب على الأبناء رعاية الأخوات و حماية مصالحهن و عدم استغلال نقاط الضعف فيهن لفرض قرارات قد تضيع حقوقهن.
 كما يأتي الإحسان أيضا إلى أصدقاء الوالدين و من أحبوا من الناس كنوع من الوفاء لذكراهم و الرسول صلى الله عليه و سلم كان يكرم صويحبات السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد و فاتها، إنه رمز الوفاء للرفقة و العشرة.

و أتم الوفاء للوالدين بعد الموت يكون بالتصدق عليهما و الدعاء لهما بالرحمة و المغفرة في كل صلاة، و الإحسان إلى أقاربهم و أرحامهم و أصدقائهم و المثل الليبي يقول:
صاحب بوك خير من صاحبك؛ فصاحب الوالد دائما يعد العشرة. و بعد الوالدين يأتي الوفاء لأسرة المرء نفسه سواء كان ذلك للإخوة و الأخوات أو الأزواج و ذلك في الدنيا و بعد رحيلهم عنها. فرعاية أبناء الأخوة و الأخوات و زيارتهم و السؤال عنهم و تفقد أحوالهم واجب في حده الأدنى ووفاء عند كماله. كذلك بين الأزواج ؛ يكون الوفاء بحفظ الأسرار و رعاية الحقوق الواجبة و استحضار الفضل بعد الافتراق بموت أو حياة. فقد أحل الله بالزواج الاتصال بالأنساب و الأرحام بميثاق غليظ يكتب فوق الأرض و يحفظ في السماء، و حسن التبعل يكون بعد الفراق ولا معنى للأدب و التلطف في المعاشرة الذي ينتهي بالجفوة و المعاداة. 

و هنا كذلك لا ننسى من كان له دور فاعل في تربيتنا و تعليمنا و بناء قدراتنا ، ألا وهم  أساتذتنا و مدربينا و موجهينا في مرحلة الشباب و كل من كان له دور في تنمية معارفنا من أهل العلم و الأدب و الوعظ، كل هؤلاء لهم حق الوفاء علينا بالدعاء لهم و ذكرهم بالخير و السير على خطاهم في بناء الأجيال القادمة. و خير الوفاء ما كان وفاء لأهل الفضل و أهل الخير صادقا لوجه الله لا يرجو منه المرء جزاءاَ و لا شكورا. و خير الوفاء للجيل المربى يكون باستحداث
يوم المعلم و المربى تقدم فيه هدايا رمزية لكل معلم و مربى في مكان عمله في يوم من أيام السنة، و لتكن مع بداية العام الدراسي. و هذا بطبيعة الحال تكريم لرسالة المعلم الذي كاد أن يكون رسولا، و تذكير لكل معلم بالأمانة المنوطة  به في المجتمع.
و هنا يحضرني بيت من الشعر حفظناه أيام الصغر:

قم للمعلم ووفه التبجيل ... كاد المعلم أن يكون رسولا

و قد حصر الشاعر هنا الرسالة بين الأنبياء، و لكن المعلم في واقع حاله يحمل رسالة التربية و التعليم و هو يبلغ فيها عن الرسول الأكرم و العلماء هم ورثة الأنبياء كما يعرف الجميع، و بالتالي يكون كل معلم مخلص في عمله رسولا لرسول الله إلينا. و إلى زمن قريب كان المسجد هو المدرسة و الشيخ هو المعلم كما كان التعلم و التعليم عبادة لله سبحانه و تعالى كما كان العلم سلعة شريفة لا تعطى إلا لمن يستحقها.

ثم يأتي الوفاء للأصدقاء و الرفاق و زملاء العمل و هو الوفاء للصحبة و للعيش و الملح على رأى المصريين. و قد يشمل هذا كل الرفقاء في الحياة بكافة دروبها و اقل الوفاء هنا يتجلى في تجنب ذكر العيوب و التركيز على ذكر الفضائل؛ أما أفضل الوفاء فيكون بدوام المواصلة مع الرفاق و مع أبنائهم بعد وفاتهم و تقديم النصيحة لهم و تذكيرهم بفضائل آبائهم. و كلنا يعرف أن طبيعة حياتنا الاجتماعية تجعل بعض الرفاق أكثر إلماما و معرفة بالرجل من أبناء أسرته و هنا تبرز أهمية التواصل بين الأجيال.
 و تحضرني في هذا المقام حكاية وزير في أوائل السبعينيات من القرن الماضي عندما كان الوزير أمينا و لا مكان للرشوة و الوساطة عنده، كان بيته في أيام الأعياد و المناسبات لا يكاد يسع الزوار و بعد أن استقال من الوزارة و كان العيد بعد ذلك بأسابيع قليلة وجد نفسه لوحده بالبيت يوم العيد و لم يزره في ذلك العيد من خارج الأسرة سوى أثنين من رفاقه القدامى. سمع الوزير سابقا الجرس ففتح الباب فوجد كلا من المهندس فتحى بن عامر و المهندس مرعى القنين فاغر ورقت عيناه بالدموع و قال لهما: كنت اعرف أنه لن يفعلها غيركما. هكذا يكون وفاء الرجال فوق المصالح و المناصب و ما كان لله دام و اتصل.

و أخيرا و ليس بآخر يأتي الوفاء بالعهود و الله سبحانه و تعالى يقول في كتابه العزيز: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا. و الوفاء بالعهود من شيم المؤمنين و نقض العهود و خيانتها من خصائص المنافقين. و كم من دولة سقطت و شعوب دمرت و حضارات زالت بسبب خيانة العهود على جميع المستويات من الموظف البسيط المسؤول عن المحفوظات إلى قادة الأمم و الجيوش.
 و كثيرا ما نغفل أو نتناسى عهودا في رقابنا أمام الله و أمام القانون وأمام الناس مثل؛

العهد الذي يعطيه الطبيب لخدمة المرضى لأسباب إنسانية

العهد الذي يقسم به رجال القانون و القضاء للعدل بين الناس

العهد الذي يقطعه الضابط على نفسه للدفاع عن الوطن

العهد الذي يتعهد به رجل الشرطة لحماية المواطن و تطبيق القانون

العهد الذي يتحمل به الوزير  أمانة حماية مصالح الشعب

العهد الذي يتعهد به الحاكم لشعبه بالعدالة و المساواة و الحياة الكريمة 

العهد الذي يحمله المعلم في ذمته لبناء جيل أفضل 

العهد الذي قطعه الثوار بتحرير ليبيا وتأسيس دولة القانون

              وقبل أن نطلب من شعوبنا الوفاء لنا علينا أن نفى بعهودنا، فالشعوب قد تنسى من يسيء إليها بسرعة خروجا من المآسي و الآلام ،و لكنها تظل عبر السنين تذكر فضائل من أحسن إليها أو ضحى في سبيلها و التاريخ خير شاهد على ذلك. و كلنا يعرف أن الناس عيال الله و أدوات مسخرة لإيصال فضله بين بعضهم و من لا يشكر الناس لا يشكر الله، ووفاؤنا لأهل الفضل علينا هو من تمام الحمد و الشكر لله الذي سخر لنا من يقوم على أمورنا و يرعاها.