Wednesday, May 11, 2011

صفحات شخصية من تاريخ المعارضة الليبية


        لقد ساهم في صنع ما حدث في فبراير من تفجر الثورة الوطنية الليبية مئات الألوف من المناضلين الشرفاء على مدى أربعة عقود، منهم من قضى نحبه قبل أن يراها و منهم من لا زال ينتظر في يوم نجاحها ببزوغ عصر الديمقراطية و دولة القانون، و لكي لا تضيع التفاصيل الدقيقة في خضم الأحداث أحببت أن انشر صفحات يشاركني فيها الكثيرون و لكنها بقت طي الكتمان حتى الآن لكي يعرف الناس الحقيقة و يستفيدوا من التجربة.

تمهيد

لقد أكرمني الله سبحانه و تعالى بالقدرة على تمييز المواقف و الحكم على بعض جوانبها منذ نعومة
 أظفاري و بالتالي لم أرتح للقذافي من أول يوم سمعته يتحدث أمام ضريح عمر المختار و كنت يومها بالسنة الأولى بالجامعة، ثم زاد الطين بله يوم تخلص من الحواز و ثلة من الضباط في الأشهر الأولي بعد الانقلاب فكنت اختلف مع رؤية مؤيديه منذ ذلك التاريخ. و أول يوم تكلمت فيه علنا كان في مسرح كلية العلوم بطرابلس بحضور الرائد بشير هوادي، و في ذلك المساء اجتمع هوادي بطلاب الجامعة و كان وزيرا للتربية و الإرشاد القومي بغرض فصل اتحاد الطلبة إلى جزء يرعى الجامعة و آخر يخص بقية مراحل التعليم و كان الهدف واضحا و هو سيطرة الدولة على قطاع الطلاب.
 و بعد أن تحدث هوادي بدأ الطلبة بالرد عليه فكان أول المتحدثين هو رجب الهنيد و كان يساريا معروفا و قد سجن أيام العهد الملكي مع القوميين، فاصطدم ببشير عند ما قال له بشير: فرغ شكارتك، فرد رجب: لقد أفرغت أنت شكارتك قبلي. و هذا اتهام لرجب بأنه يحاول التأثير لهدف حزبي. ثم تحدث الأخ الشهيد مهذب حفاف رحمه الله، و كان من حزب التحرير و أصر على حق الطلاب في الاتحاد العام كما يرون دون تدخل من السلطة.


الكاتب يتحدث في لقاء  بشير هوادي بطلاب الجامعة
 بمسرح كلية العلوم 1970م

ثم كنت ثالث المتحدثين و وجهت خطابي للطلبة، و قلت : لقد ناضل الطلاب من أجل قضاياهم و سقط منهم شهداء في عام 1964 و لماذا نخاف من الاتحاد في ظل الثورة، و ربما تتغير الأمور و نحتاج لدور الطلاب في التغيير من جديد، ثم تحدث طالب يدعى مختار الغول و بعد بعض النقاش انفض الاجتماع و تأكد لي أن الهدف هو السيطرة على الجامعة و فصلها عن المرحلة الثانوية.
 و للتاريخ أقول كان بشير هوادي فضا و جافا و كثيرا ما قال: اللي موش عاجبه الحال ينوض بدري. كناية عن الانقلاب الذي قاموا له باكرا كما كان هو يعتقد.

مرحلة الدراسة الجامعية
كنت طالبا بكلية الهندسة إلى يونيو 1973 م و شاركت في العديد من الندوات التي عقدت بها كما ساهمت في عدة مواقف هامة و منها معارضة إلغاء الامتحانات في سنة 1973م. و كان لي دور في معظم الحوارات جنبا إلى جنب مع العديد من الطلبة الناشطين و منهم مهذب حفاف و محمد البشتي و رجب الهنيد و حسن الهوني و محمد بويصير و بشير الشيباني على سبيل المثال لا الحصر.
 و عرفت كلية الهندسة جريدة حائطية اسمها "المحطة" انطلق منها إبراهيم اغنيوة ليدشن "ليبيا وطننا" بعد سنين في المهجر، و مما يذكر هنا أن عبد السلام جلود جاء ليسقط هذه الجريدة الحائطية من أمام مقهى الكلية لكي نعرف وزنها لديهم.

الكاتب الثالث من اليمين خلال أمسية ثقافية بمسرح كلية الهندسة 1970م

و في تلك الفترة كان يلقي محاضرات و يتحدث في الندوات رجال من أمثال الصادق النيهوم و إبراهيم الغويل و الشهيد د عمرو النامي و د محمد الدسوقي و د احمد توتونجي و بعض شيوخ الأزهر، و من هذا يمكننا أن نقول بأن الحوار كان على مستوى جيد.
 ثم جاء خطاب زوارة سنة 1973م و تم إلقاء القبض على معظم الناشطين، حيث أودع سجن الحصان الأسود تسعة من الطلبة كلهم كانوا من أصدقائي و كان اسمي في القائمة عند ما تليت أول مرة في المساء بمسرح الكلية و لكن الله نجاني عند ما تم تعديل القائمة بحذف اسمي و اسم بشير الشيباني بفضل بعض الأخوة الذين شهدوا لدي السلطات الأمنية بأننا لم نكن حزبيين.
و من أبرز أحداث تلك الفترة كانت المظاهرة الوحيدة في تاريخ الجامعة بطرابلس سنة 1970م احتجاجا على إهانة أساتذة الجامعة، و ندوة الفكر الثوري التي أدت إلى اكتشاف  المنتمين إلى التيارات السياسية و إلقاء القبض عليهم في الثورة الثقافية المزعومة،  ثم تمكُننا من فرض الامتحانات في الجامعة بعد أن تم إلغائها في كلية القانون ببنغازي في تلك السنة. و جاء ألقذافي شخصيا إلى كلية الهندسة و حاورنا محاولا تمرير قراره و لكنه قبل رأينا في الآخر، و يومها كنت أحد المتحدثين و كذلك تحدث بشير الشيباني و كنا مع الامتحانات، و تخيلوا معي لو وافقنا على إلغاء الامتحانات من ذلك التاريخ ماذا سيكون مصير التعليم الآن. إن ما حدث في ليبيا خلال العقود الماضية لم يكن خطأ بل كان مخططا.

مرحلة الدراسات العليا بأمريكا
      
ذهبت إلى مدينة بتسبرق بولاية بنسلفانيا للدراسات العليا في مجال الهندسة الإلكترونية بجامعة كارنيقي ميلون في صيف 1974م بعد تعييني معيدا بكلية الهندسة بجامعة طرابلس. و بدأنا مشوار العمل السياسي من خلال اتحاد الطلبة المسلمين حيث كنا نلتقي في مجموعات كبيرة من كل الولايات و نلتقي باستمرار في المراكز الإسلامية و المساجد و عدد منها كان يديره ليبيون و هذا ساعد على تبادل الزيارات و عقد الندوات و المخيمات و بالتالي جمع طلاب من كل المدن الليبية. و ربما كان أهم اجتماع و هو الذي عقد بمتشقان آن أربر مع انعقاد الاجتماع العالمي العام لسنة1979 م لجماعة الدعوة و التبليغ و الذي حضره عدد كبير من الليبيين ن ففي هذا الاجتماع حضر حوالي عشرون ليبيَا من بتسبرق فدعونا الجميع للحضور إلى خيمتنا فالتقى حوالي ثمانون ليبيَا فيها.
 و في هذا الاجتماع تطرقنا إلى ضرورة العمل من اجل ليبيا و تحدث في الحاضرين الأخ عبد الله الشيباني رحمه الله و الأخ علي بو زعكوك و العبد لله و اتفق الجميع على تكثيف الجهود و اللقاءات من اجل التعاون لهذا الغرض. و لم نلمس رفضا من أي فرد من الحاضرين فالجميع كانوا يرون خطورة موجة اللجان الثورية و تدمير الحياة الاقتصادية في ليبيا. و كانت فرصة طيبة للتعارف ثم تبادل الزيارات و اللقاءات بين المدن المختلفة، و كنت خلال جميع اللقاءات أحرص على عدم التصوير و عدم إعطاء بياناتي الشخصية فتجربة الثورة الثقافية جعلتني لا أثق في الناس بسهولة بالنسبة للمعلومات الشخصية.
 أتممت الدراسة و عدت إلى ليبيا، وفي يناير 1981م رجعت إلى أمريكا لحضور مؤتمر علمي و مررت على بتسبرق لزيارة الأخوة و كانت المفاجأة، و كأني به لقاء من غير موعد حيث اتصل بي الأخ مسعود عبد الله و أبلغني بالتحضير لاجتماع تمهيدي تأسيسي للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا و اتفقت معه على اللقاء الأول في بيته على أن يكون اللقاء محدود جدا، و اجتمعنا مع كل من الأستاذ محمود الناكوع و الأخ فايز جبريل حفظه الله الذين قدموا لهذا الغرض. و ناقشنا الأمر و أفضل ترتيب لتحريك الموضوع حيث اتفقنا على أن يتولى مسعود متابعة الإسلاميين الذين يترددون على المسجد يوميا و يتولى أبريك اسويسى بقية الطلاب و المهاجرين، و منذ ذلك اليوم أصبحت علاقتي مع الجبهة مباشرة من خلال الأخ أبريك سويسي و من بعدها مع المؤتمر الوطني للمعارضة الليبية.

مرحلة العمل بالجامعة بطرابلس
بدأت هذه المرحلة منذ عودتي في صيف1980م و كان أبرز محطاتها ذهابي للحج عام 1982م و لقاء الأخوة علي بو زعكوك عدة مرات و فايز جبريل و عزات المقريف و عثمان عثمان كل على إنفراد، و لكنني كنت حذرا فلم أعط أيٌ منهم عنواني أو هاتفي و كانت هذا سياستي دائما فلا أعطي بياناتي الشخصية لأحد و لهذا السبب نجوت في عدة مرات من دخول السجن. و كانت هذه  اللقاءات فرصة لتبادل المعلومات و مناقشة العمل بالداخل، و سمحت لي ظروف سفري المتكرر بعد ذلك بالاتصال بابريك عدة مرات سنويا.  و كان أهمها في ابريل 1984م عند ما حضرت دورة مكثفة لمدة ثلاثة أسابيع في لندن و علمت من أبريك بمشروع كبير بالداخل و عرض عليَ لقاء مدير مكتب الجبهة في لندن و لكنني رفضت بسبب ضيق الوقت و خطورة تسرب المعلومات و اذكر أني سألته عن مدي الخطورة فقال لي: طبيخة حارة. و تعني عملية كبيرة، و هي عملية باب العزيزية.

عملية باب العزيزية

بعد دخول الشباب المشاركين في العملية اكتشفوا أن جميع الوعود التي تلقتها الجبهة بالتعاون من الداخل تبخرت و لم يجدوا عونا يذكر و ارتبكوا بين مقدم عليها بما توفر لديهم و بين من رأى التأجيل، ثم قرر الأخ أحمد احواص الدخول بدون خطة مسبقة لهذا الغرض. و قدر الله أن يوشي بهم سائق التاكسي و يسقط احواص شهيدا يوم6 مايو 1984م في زوارة و لكن المصيبة تكمن في أنه كان يحمل حقيبته الشخصية و فيها مذكرة صغيرة بها أسماء كل من يعرف داخل ليبيا و أرقام الهواتف و العناوين و الأسماء الحركية. أحضرت الشرطة خبيرا لفتح الحقيبة و هو نقيب في الشرطة قابل احواص في ألمانيا أثناء تدريبه هناك و وجدوا اسمه في القائمة فسجن أربع سنوات.
 في اليوم التالي و قبل الإعلان عن موت أحمد احواص قامت الشرطة بإلقاء القبض على كل من ورد اسمه في المذكرة، و عند المساء عرفنا جميعا بما حدث فتحرك الشباب في تنفيذ العملية في فجر يوم 8 مايو 1984م و تمكن بعضهم من دخول بيت ألقذافي و غرفة نومه حسب ما أفاد به المرحوم صالح المؤدب و نقلته عن د ونيس الشاعري رحمه الله.
 و توالت الأحداث و تم إعدام بعض الشباب و بقي الباقون في السجن، و لم نعرف الحقيقة إلا بعد خروجهم من السجن، و في هذه الأحداث فقدنا جلَ الشباب الإسلامي في ليبيا.
 و هكذا تحولت أكبر عملية للمعارضة الليبية إلى نكسة أدت إلى خروج أعداد كبيرة من الشباب منها و معظمهم لا يعرف هذه التفاصيل لأن الجبهة لم تقيم ما حدث و لم تتحدث عنه، بل هناك من يعتبرها انتصارا تاريخيا على نظام ألقذافي و هذه إحدى عيوبنا في إدارة الأمور فلا يوجد تقييم و لا مراجعة و لكن محافظة على الكراسي و المناصب و الألقاب.
 و لو حدث هذا في دولة أوربية لاستقال كل المسئولين عن الجبهة و تركوا المجال لدم جديد، و هذا الرأي واضح في انتقادي المتكرر للمعارضة الليبية التي أصبحت تورث داخل العائلات. و نصيحتي لكل من شارك في هذه الأخطاء أن يتركوا العمل السياسي للشباب و يستمتعوا بتربية أحفادهم أو كتابة مذكراتهم.

و أنا هنا انشر هذا الكلام لطرح بعض المعلومات و توضيح ما التبس على العديد من المهتمين بالشأن الليبي و أرحب بأي نقد لم جاء فيه، علما بأني لم أذكر التفاصيل الدقيقة و أترك ذلك إلى أن ننتهي من الأحداث الجارية و عندئذ سوف يتحدث الذين تحملوا السنين الطوال في سجن أبي سليم عن حقيقة ما جرى. 

1 comment:

  1. لم أكن لأصدق أن حدث ما حدث وها هو الأن يحدث ما يحدث والعجب كل العجب من مذكراتك سيدي ومذكرات غيرك التي تكشف الستار عن الخفايا العظام لذاك السفاح النكرة والذي لم يصبح معرفة إلا على ظهور وأكتاف الليبيين وبدمائهم الطاهرة مذ أمسك بزمام الأمور بها وليته لم يمسك إلا بطشه وخبثه ولؤمه عن أرضنا وشعبنا.
    أشكرك سيدي الفاضل ونشكر لك صنيعك من أجل ليبيا وجزاك الله عنها وعنا كل خير وكل من كافح من أجل الأم الحبيبة الغالية ليبيا.

    ReplyDelete