التاريخ المكتوب هو خزانة الأمة، هو الذاكرة وهو الرصيد الحضارى ، و ينبغى على من يتناوله أن يتحرى الصدق فى الوصف و الدقة فى النقل و التدقيق في المصادر التي يستخدمها، و أن لا يترك مصدرا لا يبحث فيه. و فى حالات كثيرة يلاحظ تحيز من الكاتب أو مجاملة أو اضافة أراء و تحليلات الكاتب نفسه . و لقد تكفل الله سبحانه و تعالى بعرض أحداث الدنيا مرئية يوم القيامة ، حيث يرى الناس أعمالهم وعندئذ يتبين الكاذب من الصادق ، و عندها فقط يندم الخونة و العملاء و المجرمون حين لا ينفع الندم.
فى الاسابيع الماضية شاهدت على قناة الحوار لقاءًا مع الأستاذ فرج نجم حول كتابه عن الشارف الغريانى، والذي أثار انتباهي هو ما جاء على لسانه من أن الايطاليين لم يغتصبوا النساء الليبيات خلال غزوهم لليبيا و احتلالها مثلما فعلوا بالصومال و الحبشة. كذلك أثارنى جدا محاوله تبرأة من خدموا جندا تحت الطليان ووصفهم بأنهم حموا أعراض الليبيين. وأنا أعرف الأخ فرج جيدا و أخالها زلة لسان تحت تأثير التصوير المرئي. و بعد أسبوعين فقط عرضت الجزيرة نقاشا حول الاتفاق الليبى الايطالى ، حيث تحدث أحد الضيوف و هو متخصص فى التاريخ عن اغتصاب مئتى امرأة من نساء سكان مدينة الجغبوب عند احتلالها من قبل الايطاليين . إنهن نساء المجاهدين من أتباع الحركة السنوسية و أبناء ليبيا . كما قام الايطاليون بنفى أكثر من خمسمائة امرأة ليبية الى شرق أفريقيا ؛ وبالتالى نالت المرأة الليبية حظها من التنكيل . و انا أعرف شخصيا و عن طريق رواة ثقات أن الايطاليين استباحوا طرابلس لمدة ثلاثة أيام عند بداية الغزو ؛ و ذلك لما وجدوه من مقاومة شرسة من أهلها العزل و بالتالى جاز لجنودها الاغتصاب و القتل و النهب فى تلك الفترة . و الايطاليون يعرفون غيرة المسلم على شرفه فأرادوا تهديد أهالى طرابلس في شرفهم ؛ و بالفعل نزح الناس الى الضواحى فى منطقة خلة الفرجان و غيرها من المناطق المحيطة بطرابلس ، و انتهز الفرصة بعض يهود طرابلس فى سلب ممتلكات الاهالى ، وهذه كانت بداية العداء لليهود لدى أهالى المدينة . و الشىء بالشىء يذكر ، ففى إحدى المرات طلبت فتاة ليبية من أبيها ان يقتلها غسلا لعارها عندما اغتصبها جنود ايطاليون ، و بالفعل أطلق والدها النار عليها فى موقف رهيب امتزج فيه الحب بالألم و الحرقة و قهر الاذلال . و لقد غدر الايطاليون بالليبيين بعد عدة اتفاقيات فى الماضى و كانوا يستخدمون الهدنة والاتفاقات محطات مرحلية للاستعداد لمزيد من الاعتداءات، و تاريخنا مع عدوانهم يمتد لآلاف السنين ، فلم التفاؤل؟
أما بالنسبة للمجندين مع الطليان فكان عدد قليل منهم فقط يحاول مساعدة المواطنين ، لكن أغلبهم شارك فى إرهاب الليبيين و التحقيق معهم و سجنهم ، بل إعدام بعضهم . و فى كل مدينة كان الناس يعرفون المخبرين أو البصاصين و السجانين و الشناقين الذين يضعون حبل المشنقة فى عنق المواطن الليبى . و المطلوب الآن هو العودة للوثائق و السجلات الايطالية ، ثم الى قصائد الشعر الشعبى ، ففيها الكثير من المعلومات ، كما يجب تحقيق المعلومات المنقولة عن روايات شفهية من آحاد لمن يريد أن يدرس أو يكتب التاريخ بأمانة ، فكثير من الرواة قد يسخّر الحديث لمصلحته لأسباب كثيرة .
و من المجندين من التحق متطوعا مع الطليان ومنهم من قاتل بشراسة ضد المجاهدين، فالذى أبلغ الايطاليين بوجود عمر المختارفى المنطقة قبل اعتقاله كان مخبرا ليبيا، و الذين اشتبكوا مع رجاله كانوا مجندين ليبيين، والذى أطلق النار على جواده كان ليبياً، و لو كان ايطاليا لصوب بندقيته على الفارس؛ أما من دلَ عليه فهو ليبى حيث صاح سيدي عمر. كما أن الذى نفذ حكم الاعدام شنقا فى عمر هوكذلك ليبي؛ و كل هؤلاء كانوا مجندين و يخدمون تحت العلم الايطالى ، و لا أحد يتحدث عن هؤلاء و أمثالهم فى كل مدن ليبيا. بل لقد شارك بعض المجندين فى حرب الحبشة فى التنكيل بأهلها بين القتل حرقا و اغتصاب النساء و تدمير القرى، و ذلك بعد ان نكَل مجندوها من المصوع و الاحباش من الليبيين و الليبيات و الحكايات طويلة لكن العبرة قد تأتى من واحدة فقط. و لقد حكى لى أحد المجندين كيف سافر الى اليمن للتجسس على القوات البريطانية في عدن في مهمة للاستخبارات الايطالية. و أنا استحى من تفصيل أكثر في هذا الموضوع، لكن يجب أن لا نقلب الحقائق و نحول الخونة الى أبطال أو رموز للجهاد الليبى.
وهنا أضيف حادثة أليمة اخرى وقعت قبل استشهاد سيدى عمر المختار حين نصب الايطاليون كمينا بالقرب من درنه بوادى الأثرون لعدد كبير من رجاله وقد استشهد فيه سبعة و أربعون مجاهدا و كان من بينهم قائدهم المجاهد الفضيل بو عمرنائب عمر المختار فى الجبل الأخضر، فما كان من أحد العملاء الليبيين إلا أن حز رأس الفضيل بالسكين و حمله فى كيس؛ أى شوال مع أربعين أذن اقتطعها من رؤوس المجاهدين و سلمها للحاكم العسكرى فى مدينة درنة، حتى يؤكد له انتصار الطليان و وفاة الفضيل بو عمر ربما لينال المكافأة. و لقد سمعت هذه القصة من مدرسنا فى الصف السادس الابتدائى بمدرسة النصر بمدينة درنة سنة 1962ميلادية ؛ الاستاذ عبد الكريم فنوش جزاه الله عنا كل خير . وهذه الحكاية متناقلة عن شهود عيان في مدينة درنة. ثم أخذ الايطاليون رأس الشهيد بوعمر بناءً على تعليمات غرسيانى الى بنغازى لعرضه على سجناء المجاهدين في سجن بنينة للتعرف عليه و لإحباط عزائمهم و محاولة إغراء بعضهم بالتراجع عن الجهاد. ثم علق الايطاليون رأس الفضيل فى أحد الميادين فى بنغازى و يعرف بميدان البركة . و لقد رأيت العميل الذى قام بهذا العمل بأم عينى بالقرب من مطار الأبرق فى أوائل السبعينيات من القرن الماضي، و كان يوما ما من كبار موظفى ولاية برقة أيام الولايات .
وفى الختام لا يسعنى إلا أن أطلب من كل من يخوض فى التاريخ أن يتق الله فى نفسه قبل كل شيء، ثم فى أهله و فى شعبه، فتاريخنا هو رصيدنا الإنسانى و القيمى، نأخذ منه العبر و الدروس و كتابته أمانة فى أعناقنا . و لقد سطر الصادقون من أجدادنا سجلا خالدا للكفاح من أجل الحرية و الكرامة ، كتبوه بالعرق و الدم و الدموع خلال نصف قرن من الزمان فى المدن و البرارى و الوديان و السهول على امتداد الأرض الليبية وكذلك في بلاد المهجر. و لولا الجهل و التفريط فى مقدرات الامة ما كان للطليان ان يدخلوا أرضنا أو أن يتحكموا فى شعبنا .
و قد يعيد التاريخ نفسه إذا لم نقرأه جيدا و سمحنا من جديد للغرب أن يتحكم فى مقدراتنا من خلال المصارف و الشركات العالمية، أو فرطنا فى حقوقنا الوطنية، أو فى سيادتنا على أراضينا بالسماح لقوات أجنبية أن تستخدم بلادنا. والتاريخ لا يرحم و إن غفلنا عليه؛ وإن زوره البعض منا، فإن الله حافظه، و سوف يستلم كل منا سجله فى يوم لا ريب فيه.
No comments:
Post a Comment