لقد نشرت مقالا بعنوان " معالم التخلف " بتاريخ 13/7/2009 ولفت انتباهي بعد هذه المدة تعليق أحد القراء أسمى نفسه متقدما، وفيه طلب تسليط المزيد من الضوء على ظاهرة التخلف. واحتراما لرأيه الذي اعتز به وأورده كما جاء في التعليق في الشكل الآتي:
متقدم
مقال جميل ولكن لو سمحت لي بتعليق متواضع: لاحظت مرورك السريع عبر تعريف التخلف ومن ثم بدأت في وصف ظواهر محيطة بها ولكن الأهم في رأيي هو تقديم تعريف مفصل للتخلف بشكل أعمق من مجرد القول بأنه عكس التقدم. لأن ما يهمنا هو ماذا يمكن عمله وأين الخلل؟ لذلك أطلب المزيد من الشرح، التخلف كضد للتقدم هو من صفات الدول وليس الناس، والسؤال هو: ماذا يجعلنا متخلفين؟ هل هناك صفات أو عادات أو اعتقادات على مستوى الأشخاص تشجع على التخلف؟ أم هل سبب تخلفنا ببساطة ضعف الحكومات لدينا لعدة أسباب منها عدم الاستقرار السياسي وعدم وجود قاعدة صناعية وإنتاجية؟ ماذا عن أيديولوجيات الناس؟ هل في رأيك ممكن بغض النظر عما يقول الناس أنهم يؤمنون به ويتصفون به من أخلاق، سلبية معتقداتهم تنعكس على أحوالهم كجماعة؟ هل الغباء والجهل سبب التخلف؟ هل كوننا على الأقل في ليبيا حديثي عهد بالمدنية جزء من السبب؟ هل لدينا ثقافة دولة متمدنة في ذاكرتنا الشعبية؟ هل يا ترى هناك جهات اتخذت سياسية رسمية في نشر القيم المتخلفة؟ لنجيب على ذلك كله يجب أن نعرف التخلف تعريفا واضحا.
يمكنني القول إن التقدم وهو السير إلى الأمام وله درجات فهناك دول متقدمة جدا (اليابان وأمريكا)ودول متقدمة (أوروبا) ودول نامية (الصين والبرازيل والهند) ودول متأخرة (دول العالم الثالث) ودول متخلفة. وبطبيعة الأمور التقدم يحتاج إلى عدة وإعداد ونقطة انطلاق كما يحتاج إلى موازين لضبط التحرك وقياس معدلات التقدم. والتقدم كحقيقة بشرية ليس حكرا على شعب أو على أمة أو على دولة ولكن من يأخذ بالأسباب يبدأ في التقدم. ومحور التقدم الأساسي هو العلم والتعلم واستعمال الأسلوب العلمي في التفكير والتخطيط والبناء أما الأساس الثاني للتقدم فهو العمل الدؤوب والمنظم. والأساس الثالث هو القانون الذي ينظم العلاقات بين جميع العاملين من حيث الحقوق والواجبات، أما الأساس الرابع فهو حرية التعبير بحيث يمكن التنبيه إلى الأخطاء ومعالجتها وكشف مواقع التقصير، والأساس الخامس هو نظام الإدارة الذي يسيطر ويراقب ويوجه ويحاسب. أما إذا أردنا أن نتخلف فعلينا أولا تدمير الإدارة تحت أي مسمى كان مثل محاربة الرجعية أو محاربة المعوقين أو إبعاد أعداء الوطن، ثم بعد ذلك نكمم الأفواه بالسيطرة على الإعلام واستحداث موجة من الإرهاب الفكري تجرم من يخالفنا أويحاول نقد أفكارنا ثم بعد ذلك ندمر القوانين التي تصدر عليها أحكامنا إذا مارسنا التخلف بالابتعاد عن التفكير العلمي والعملي واستسلمنا للجهل والكسل. وبالتالي يبدأ الاعتماد على العلاقات القبلية والجهوية والإقليمية ونعتمد الوساطة والمحسوبية في التعيين والرشوة في التعامل. ومثلما يحتاج التقدم إلى منظومة فكذلك التخلف يعشعش ويترعرع من خلال منظومة الفساد. ويأخذ أبعادا ومظاهر أخلاقية واجتماعية ومادية وسيطرة إرهابية فهو يخاف من أسباب التقدم سواء تمثلت في الأشخاص المتعلمين أو الذين يطلبون العلم أو العلم نفسه. والتقدم بصفة عامة هو المدنية والحضارة والتخلف يعتمد على الجهل والبداوة.
أما الاستقرار الحكومي فلا يساعد على التقدم بل يؤدي في كثير من الأحيان إلى الركود وكم من دولة متقدمة تتغير فيها الحكومات بشكل دوري وهذا الأمر يستخدم لتطوير الأداء ودفع عملية التقدم إلى الأمام. ولكن الاستقرار السياسي المبني على العدل وعلى تداول السلطة سلميا وعلى توفير الحياة الكريمة للمواطن فهو مطلوب وأساسي لاستمرارية عملية النمو.
و حالة التخلف أوالتقدم هى حالة حركية وليست حالة دائمة وتتوقف على النظام وليس على الشعب وبالتالي فلا يوجد شعب متخلف ولكنه قد يوضع في موقع متخلف. فالشعب كالعربة إذا كان الحصان جيدا أي سليما ومعلوفا ومدربا وقاده فارس ماهر فإن العربة سوف تتقدم وربما تصبح في المقدمة، أما إذا كان الحصان هزيلا وذليلا وقائده قد قرر الخسارة من البداية فإن العربة لا لوم عليها. وفي تصوري يمثل الحصان القوة المحركة في الدولة وتشمل طاقات الإنتاج والعمل والتخطيط والتطوير والتعليم والتدريب أما الفارس فيمثل منظومة الدولة بكامل أجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والمنظور الاستراتيجي للدولة أما العربة فتمثل الأجهزة الحامية للدولة وتشمل جميع الأجهزة الأمنية والدفاعية والخدمية. والتناسق والتناغم بين الثلاثة يضمن وجود الشروط اللازمة والكافية لإحداث التقدم. فعلى سبيل المثال توجد كتلة حرجة للعربة إذا زادت عنها أعاقت العملية وقوة دفع حرجة للحصان كي يتمكن من تحقيق السرعة والتسارع المطلوبين، كما يجب أن تتوفر لدى الفارس الرؤية الصحيحة والسيطرة برفق على العربة والحصان من خلال القوانين والتشريعات بشكل دستوري منظم.
والتقدم حالة مرغوبة من كل الشعوب ومفخرة لها، وبالتالي إذا حاولت الدولة التقدم خطوة إلى الأمام فإن الشعب يسير عشرات الخطوات في نفس الاتجاه ومقولة " الناس على دين ملوكهم" فيها الكثير من المصداقية؛ والملك قد يكون ملكا أو مالكا أو حاكما أو محتلا أو دكتاتورا والفرق هنا في التسمية فقط. وأكبر عقبة على طريق التقدم هي حالة الإرهاب، فإذا ساد الإرهاب السياسي أو الاجتماعي أو الفكري أو المادي تموت في الشعب ملكة الإبداع وروح التطلع إلى الأعلى وبالتالي يرضخ لحالة التخلف هروبا من المشاكل. و استمرارية حالة التخلف تقود فى الغالب إلى دمار و إنهيار الدول و الممالك.
هل نحن حديثو عهد بالمدنية؟
شعب ليبيا فى الأصل ليس متجانسا عرقيا ولا ثقافيا ولا حضاريا لسبب اتساع رقعة الأرض وصعوبة الاتصال عبر العصور، و تكون من خلال عدة هجرات فى إتجاهات مختلفة من مصادر مختلفة و لأسباب مختلفة. فنجد من هو بالمدنية والحضارة ملم في كثير من المدن، وعلى النقيض نجد النمط البدائي الذي لا يعرف من الدنيا أكثر من مائه ومرعاه وبيوت الشعر التي يعيش فيها أو أعالي الجبال والصحاري. أما ليبيا كبلاد فمرت عليها معظم الحضارات التي سادت في منطقة حوض البحر المتوسط وكان لها ولسكانها دور تاريخي، فيكفي أن تقول أن عاصمة الإمبراطورية الرومانية انتقلت إلى لبدة فترة من الزمن وأن بعض أسر الفراعنة هم من قبائل ليبية قديمة، ناهيك عن المدن والجامعات الإغريقية والفينيقية التي لا زالت ترى بقاياها. وأكبر دليل على إمكانيات الشعب الليبي الحديث النقلة الحضارية النوعية من فترة الاستعمار الإيطالي إلى دولة الاستقلال بكامل مؤسساتها المدنية والعسكرية والتي كان أساسها الإخلاص في العمل والاعتماد على التربية والتعليم.
أسباب التخلف و الخراب
من أبرز و أول من تطرق لهذا الموضوع بتوسع هو العلامة إبن خلدون فى مقدمته الشهيرة حين تناول أسباب دمار الممالك منطلقا من معطيات زمانه، فحدد هذه الأسباب فى باب سماه "فى أن الظلم مؤذن بخراب العمران" و خراب العمران هو آخر مراحل الخراب الشامل و الذى عادة ما يبدأ بالتخلف عن ركب الحضارة. و فى هذا الباب تطرق بالشرح و التفصيل لأنواع الظلم و يمكن إجمال ما تطرق إليه مع قليل من التصرف لربطه بواقعنا المعاصر فى الآتى:
الظلم فى مجال الاقتصاد
و يبدأ بالإعتداء على الناس فى أموالهم و ممتلكاتهم و اراضيهم و الذى يقضى على أمالهم فى تحصيلها و اكتسابها و بالتالى تنقبض أيديهم عن السعى و يركنون الى الكسل. و لو اضفنا الى ذلك الاحتكار و التلاعب فى الاسواق و الاسعار و العملات فإن هذا كفيل بفتح أبواب الغش و الربا و الرشوة فى التعامل. كذلك من الظلم تكليف الناس باعمال لا تناسبهم و خاصة اذا كانت باجر بخيس أو بدون أجر على الاطلاق؛ أو تحديد أنواع النشاط الاقتصادى و تحويل الناس بالكامل الى العمل فى الدولة.
الظلم فى مجال التعليم
و يبدأ بخلخلة نظام التعليم بضرب أسس المساواة فى الفرص و اتباع اسلوب المحابة فى الالتحاق به أو فى العمل فيه. ومن ظواهره تسرب الامتحانات و كثرة الدروس الخصوصية و تمكين من لا يملك المؤهلات المطلوبة من دخول الجامعات و حرمان المتفوقين من تطوير قدراتهم بالدراسات العليا و تمكين من لا يستحق ذلك، ثم ياتى الاستخفاف بالعاملين فى قطاع التعليم و ازدراء احوالهم و التضييق عليهم فى الدخل و ظروف العمل، و اذا كان هذا حال رواد التعليم فكيف يحصل الابداع و التفوق بين التلاميذ و هنا يكمن التخلف العلمى.
الظلم فى مجال السياسة العامة
و يبدأ بتقديم الولاء على الكفاءة فى التعيين و يتم إسناد الأمر إلى غير أهله، ثم ينتقل الى رفض الرأى الآخر و تجريم الانتقاد و تكميم الأفواه بمنع و حصر قنوات التعبير، و بالتالى يتم القضاء على حرية التعبير و يتحول الحوار الى توجيهات و تعليمات لا يناقشها أحد. و تتم معاملة الشعب على أنه قطيع من الرعاع و السفهاء التحكم فيهم أفضل من مشاورتهم. و من المؤسف جدا أن تطغى هذه الرؤية على الانظمة و قطاعات المعارضة فى كثير من الدول المتخلفة.
الظلم فى المجال الاجتماعى
و يبدأ بتفضيل جنس على اخر داخل الاسرة، ثم يرقى الى حرمان احدهما من حقوقه الثابتة فى الشريعة و القانون و يتم حرمانه من الدراسة و العمل و الخروج الى الدنيا أو قيادة السيارة و فى النهاية يتم حرمانه من التصرف فى امواله و تضيع كل حقوقه. ثم ينتقل الظلم الى استحداث نظام طبقى على اسس مادية او قبلية أو جهوية أو سلطوية و يتم ازدراء من لا ينتمى الى الطبقات المفضلة فى التعامل. و من مظاهر الظلم المبالغة فى المناسبات و الاهتمام بالمظاهر مما يؤدى الى زيادة و ابراز الهوة بين الطبقات، و يتعسر العيش على عامة الناس و ينتشر الحقد و الحسد بين أبناء البلد الواحد.
الظلم فى مجال التشريع
و يبدأ بكثرة التشريعات و تداخلها و تعقيدها بما يحول حياة الناس الى مسلسل من الاجراءات لا ينتهى، فمهما كانت الغاية من العمل يوضع له سيل من الاجراءات و الوثائق و الاوراق مما يدفع المواطن الى الركون للرشوة أو ترك الهدف الذى يصبو اليه، ناهيك عن تفشى التزوير و الاحتيال و التلاعب بالاوراق الرسمية و كل هذا يؤدى الى زيادة الكادر الوظيفى و رفع معدلات البطالة المقنعة.
كانت هذه عينة عمن تناول موضوع التخلف و بالتأكيد هناك الكثير من أمثالها فى مختلف وجوه الحياة و قد تطرق لها كثير من الكتاب الحديثين و من أبرزهم المفكر الجزائرى مالك بن نبى و انا انصح بدراسة كتبه لمن أراد المزيد.
خاتمة
فى الختام يمكننى إجمال معنى الظلم فى الاعتداء على حقوق المواطنين التى كفلتها القوانين و الشرائع بأى شكل من الاشكال، و كلما زادت مواقع و اشكال الظلم كانت الدولة أقرب الى الانهيار خاصة فى الدويلات القزمية التى نعيش فيها. و لقد حدد الله سبحانه و تعالى منتهى الظلم فى قوله
" و تلك بيوتهم خاوية بما ظلموا"
و هذا اللفظ الربانى لا يقف فيه الخراب عند دار الحاكم فقط، بل يتعداها الى كل بيت و ذلك عندما يصبح الظلم هو اساس التعامل بين الجميع و بمختلف أشكاله. ولن نتقدم أبدا و لن تقوم لنا قائمة ما لم نحرم الظلم فى حياتنا و مؤسساتنا و دوائر حكمنا و نبنى كل حياتنا على اسس من العدل و التسامح، و هذا هو السر الذى بنى عليه محمد صلى الله عليه و سلم دولة الاسلام الاولى. و المثل يقول: العدل لا يدوم و إن دام عمّر و الظلم لا يدوم و إن دام دمّر. والتخلف هو أحد أعراض الظلم و مرحلة على طريق الخراب الشامل اذا لم نخرج منه انتهينا جميعا إلى الخراب الشامل.
No comments:
Post a Comment