لقد مرت بكل الشعوب العربية مرحلة استعمارية قاسية انتهكت فيها الحرمات و داس الغرب فيها على كرامة أهلنا ، و من ابرز من تناول اسباب هذه النكبة المفكر الجزائرى مالك بن نبى ، و قد ارجع بن نبى ذلك الى قابليتها للاستعمار . ولو نظرنا الى هذا الامر لوجدنا أن هذه هذه القابلية أتت من خلال تفشى ثلاثة أسباب فتاكة ألا و هى انتشار الجهل و الفقر و المرض . و لقد انتشر الجهل من خلال اهمال التعليم و محاربة العلم و اهله و تشجيع الخرافات و البدع و اعتبار كل دعوة للاصلاح بمثابة مؤامرة على السلطان العثمانى او الولاة المحليين . و السبب الثانى كان الفقر الذى أتى على الاخضر و اليابس من المقومات الحضارية للأمة العربية و ذلك لغياب اى برامج للتنمية الاقتصادية و الصناعية و الزراعية و انعدام برامج الضمان او التكافل الاجتماعى من خلال مصارف الزكاة و جباية الضرائب ، و عندما تزور تركيا سوف تشاهد أسرة لبعض اطفال الامراء و السلاطين من الذهب الخالص و الشعوب العربية و الاسلامية جائعة فى بطونها . وفى غياب العلم و التعليم و تفشى الفقر انتشرت الامراض بين الناس و من أبرزها مرض الطاعون الذى قضى على اعداد من الليبيين .
و الحقيقة التى يجب أن لا تغيب عنا هى أن الاعداء الحقيقيين للامة هم الجهل و الفقر و المرض ؛ اما الاستعمار و التخلف أو الرجعية و الاستبداد أنما هى اعراض يجرها سيطرة هذا الثالوث الشيطانى على اوضاعنا . ولقد كانت محاربة هذه الاسباب هى جوهر جميع الرسالات السماوية ، و كذلك كانت هى الهدف الاساسى لجميع الحركات الاصلاحية فى العالم .
و أهم سلاح فى مواجهتها هو توفر الاموال ، فالثروة هى السلاح الأقوى ، فمحاربة الجهل تحتاج الى اموال للانفاق على التعليم و البحث العلمى . و اذا سيطرنا على الجهل اصبحت التنمية ميسرة ، وعندها تزدهر البلاد و تتوفر الوظائف للجميع فى المجالات العامة و الخاصة ، و كذلك الامر فى مكافحة الامراض بجميع أنواعها . و برنامج المكافحة يحتاج دائما الى برامج للاصلاح و الصيانة الوقائية ، و بتحقق الكتلة الحرجة اللازمة فان العملية بعد ذلك تتحرك ذاتيا و تستمر .
وفى هذه الايام يدور حوارفى ليبيا حول توزيع الثروة على المواطنين مباشرة . و قبل ان أخوض فى هذا الموضوع يجب ان نجيب على بعض الاسئلة . فعلى سبيل المثال ؛ هل هذه الثروة ملك خاص بالجيل الحالى فقط؟ بطبيعة الحال هى ثروة وطنية لكل الأجيال ، و للامة العربية و الاسلامية كلها نصيب فيها سواء من الناحية الشرعية أو من الناحية الانسانية الصرفة . أى انها ملك لكل الاجيال . و اذا قمنا بتوزيعها فى غياب الحكمة فى ادارتها فما الذى يضمن أنها لن تذهب ادراج الرياح ؟ بالتأكيد سوف تذهب فى اسرة من الذهب و احواض سباحة من البلور الخالص و قس على ذلك . ثم بعد ذلك سنكون بدون مصادر عامة للدخل اذا نضب النفط ، و بالتالى قد ندعو الاستعمار لينقذنا ، أى ننتقل من مرحلة القابلية الى مرحلة الاستسلام الطوعى له . و كلنا يذكر كيف ذهب أعيان طرابلس الى الاستانة لطلب الاحتلال التركى ليحل محل الاستعمار البرتغالى ، فهل نريد ان يعيد التاريخ نفسه؟ و فى هذه المرة سيطلب أحفادنا العون من الاتحاد الاوربى .
و لهذا فانى ارى ان افضل حل يكمن فى ثلاثة مسارات تلتقى فيها المصلحة العامة و الخاصة عبر مئات السنين . و بالتالى فان الاجيال ستجنى منها الخير العميم و نكون فعلا قد اسسنا لنقلة نوعية ليس فى حياة الشعب الليبى فقط و لكن لكل الأمة .
و هذه المسارات تشمل برنامج استثمارى طويل الاجل و برنامج للضمان الاجتماعى يحقق المستوى المناسب من الحياة الكريمة للجميع ، أما الثالث فهو برنامج وقف للتعليم و للجامعات و مراكز البحث العلمى . و يمكن ان اتطرق لبعض جوانب هذه المسارات ولكنى كذلك ادعو كل من له رأى من اصحاب الخبرة ان يشارك فى هذا الحوار الهادف فعملية التكافل الاجتماعى الوطنى هى ثقافة و قناعات عامة قبل أن تكون قرارات .
برامج الاستثمار
لا يختلف اثنان على اهمية الاستثمار فى الداخل و الخارج ، و الاستثمار فى ديار المسلمين فى آسيا و أفريقيا دائما يكون أفضل ، و كذلك الاستثمار فى مشاريع التنمية المستدامة أى القابلة للاستمرارية ذاتيا . كما أن الاستثمار فى مجال التنمية البشرية من تطوير للقدرات الادارية و الفنية سيخدم تطوير هذه الاستثمارات . و لن اسهب فى هذا الموضوع فالمتخصصون اولى بالتفصيل فيه ، الا انى أؤكد على اهمية الادارة و المتابعة و المحاسبة و المراقبة فى مثل هذا النشاط . و أرى ان تتم الاستعانة بشركات عالمية للتخطيط وأخرى للادارة و ثالثة للمراقبة للاستثمارات و يكون الطرف الليبى هوالمرجع فى القرارات .
و على المدى القريب فان اهم استثمارعلى المستوى الشخصى للمواطن يكمن فى اعادة الحياة للقوة الشرائية للدينار الليبى . و كلنا يذكر حينما كان الجنية و الدينار الليبى يعادل اكثر من ثلاثة دولارات ، و لن يشعر المواطن بقيمة اقتصادية فعلية اذا لم ير الدينار يعود الى سابق صحته . و اذا وزعنا الثروة و الدينار ضعيف فانه سيزيد ضعفا و هذا من ابسط قواعد التضخم . و لذا فانى ادعو الى دعم الدينار الليبى فورا بتوفير الغطاء اللازم كى يصبح له قيمته فى أى مكان من العالم كما كان .
برامج الوقف
لقد اشتهر المسلمون فى استخدام الوقف لاكثر من الف عام . و الوقف هو رصد مبالغ مالية فى استثمارات جارية و يوقف ريعها للانفاق على قطاع محدد . فعلى سبيل المثال يمكن انشاء استثمارات تديرها شركات متخصصة فى مجالات صناعية و زراعية و عمرانية و كذلك جامعات و مراكز بحثية ومستشفيات يوقف دخلها للانفاق على التعليم و الجامعات و البحث العلمى و كل ما له علاقة بها ، بالاضافة الى تطوير اصولها بطبيعة الحال . و بالتالى نكون قد حفظنا للأجيال القادمة حصتها فى الثروة بما يحقق لها عزتها من توفير لمؤسسات و لوسائل حديثة للتعليم جيل بعد جيل.
برامج الضمان الاجتماعى
تشتمل برامج الضمان الاجتماعى على توفير الغطاء الصحى الازم للجميع ، وتوفيرالرعاية الاجتماعية بالتساوى لجميع الاطفال و توفير الرعاية الاجتماعية لغير القادرين على الكسب سواء لسبب شخصى بسبب العجز او عام لعدم توفر عمل ، و توفير المساعدة لكل المصابين بعاهات أو محدودى القدرات مهما كان نوعها . و هذا البرنامج هو اهم وسيلة لتوفير مظلة أمان عامة تتحقق فيها المشاركة الشاملة فى استحقاقات توزيع الثروة على اهم من يستحقها. و يمكن البداية فى هذا الشأن بتحديد مستوى أ دنى لهذه المظلات يتم تطويره مع الوقت حسب زيادة معدلات التضخم . و بطبيعة الحال هذا التصور سوف يفرض علينا اعادة النظر فى مستويات الرواتب . و سوف اتطرق لبعضها فى هذا المقال :
مستحقات الطفل الليبى :
لقد كانت الحكومة الليبية سباقة فى رصد علاوة لكل طفل يولد . و تحددت قيمتها بثمن العقيقة فى ذلك الزمان ، و الخروف الوطنى الان قد يصل الى ثلاثمئة دينار فى المتوسط . و لكن الحد المعقول لهذه العلاوة جدير بان يكون خمسون دينارا ليبيا وتدفع شهريا كما جرت العادة عن كل طفل يولد لاب أو ام ليبية ، بغض النظر عن مستوى دخل الأسرة أو أين يعمل الأبوين ، و يتم دفعها لمن يحضن الاطفال فى حالات الطلاق . و هذا المبلغ يضمن للطفل توفر الحاجات الأساسية ، مع العلم بأن بعض الدول الاوربية تدفع للطفل مبلغ مئة و ستون يورو شهريا مع انها لا تملك نفطا . و تدفع هذه المستحقات حتى سن الثامنة عشرة من خلال برامج الضمان الاجتماعى .
مستحقات المواطن الليبى :
كل مواطن ليبى أو مواطنة ليبية فوق سن الثامنة عشرة ، و لا يمارس أى نشاط اقتصادى وغير ملتحق بأى عمل يستحق دفعة شهرية قيمتها مئة و خمسون دينارا ليبيا . و هذا المبلغ سيساهم فى حفظ ماء وجه المحتاج وتحسين مستوى العيش للجميع . و بالتالى لا تضطر الفتاة للزواج لاسباب اقتصادية و لا أحد يترك الدراسة لاسباب مادية و لا تضطر المطلقة لترك أولادها . كما يمكن ان تضاف حوافز لمن ينخرط فى برامج التدريب و تطوير القدرات البشرية من غير العاملين .
مستحقات السكن للمواطن الليبى :
توفر مظلة الضمان الاجتماعى السكن لكل اسرة ليبية لا تملك سكنا من خلال المشاريع الا سكانية .
مستحقات العلاج للمواطن الليبى :
توفر المستشفيات العامة الرعاية الصحية لجميع المواطنين الذين يحتاجون أليها . كما يتكفل المجتمع بعلاج الحالات المستعصية فى الخارج .
و يمثل هذا التصور نقلة نوعية فى مستوى المعيشة للفرد و الأسرة الليبية بدون تبذير ، و هو كذلك قابل للتطبيق دائما اذا جعلنا بعض عوائد الضرائب وكل أموال الزكاة تصب فى برامج الضمان الاجتماعى . و من خلال هذا الطرح يتم بالفعل توزيع الثروة على المواطنين عبر عدة أجيال و بطريقة عادلة و منظمة و مضمونة النتائج . كما أن ابواب الانفاق محددة و سوف تساهم فى تدوير عجلة النشاط الاقتصادى فى البلد و نوفر للشعب الليبى المستوى اللائق من الحياة الكريمة .
No comments:
Post a Comment