العبادات في الإسلام ليست مجرد طقوس لا عبرة فيها، بل هي مدرسة نتعلم منها و نستخلص منها المعاني التي تنير لنا الطريق في حياتنا الدنيا. و كل عمل نتقرب به إلى الله تعالى يحمل في طياته قيم و مبادئ و توجيهات و إذا لم يكن هذا فكيف نخرج من الظلمات إلى النور إلا باقتباس النور في لحظات التجلي عند التفرغ لعبادة الله الواحد الأحد.
الحج
الحج يعتبر من أعظم العبادات في الإسلام، بل هو رحلة العمر إذا كان للمسلم رحلة تصله بالله اتصالا لا انقطاع بعده، لمن يوفقه الله. ففي الحج يخرج العبد من بلده و أهله و ماله و يتوجه إلى خير بقاع الأرض عند الله ألا و هو البيت الحرام. فالعبد يترك الدنيا و ملذاتها و يتوجه إلى مكة طلبا لرضا الله و عفوه و مغفرته، انه الفرار إلى الله. و لقد ارتبطت أعمال الحج بسيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام و أسرته . فبادئ ذي بدء كان الانتقال بالأسرة إلى مكة ، لكي يترك إبراهيم عليه السلام المتقدم في السن زوجته الشابة أمنا هاجر و ابنه الرضيع إسماعيل عند قواعد البيت في بطن مكة ، عندما كانت مكة صحراء قاحلة لا حياة فيها امتثالا لأمر الله تعالى . و عندما سألته السيدة هاجر : أالله أمرك بهذا؟ فأجابها بالإيجاب قالت: إذا لن يضيعنا. فاجتمعت لهذين الزوجين طاعة الله و الثقة به و حسن التوكل عليه. و هذه كانت الهجرة الأولى في أصول الإسلام أو لنقل أصل رحلة الحج.
الآذان بالحج
و بعد بناء الكعبة أمر الله سبحانه و تعالى سيدنا إبراهيم بأن يؤذن في الناس بالحج في أرض خلاء ليس فيها أحد يسمعه. و يرفع سيدنا إبراهيم الآذان بالحج و يلبى المسلمون بعد عشرات القرون دعوته و يأتون من كل فج عميق . و في هذا الأمر حكمة ألا و هي الدعوة إلى الله و الأمر بالمعروف من أجل نهضة هذه الأمة و لو كان المرء وحيدا، أو بين الناس و لا يسمع له أحد أو لا يلتفت إليه أحد. اى انه على المسلم أن يدعو أين ما كان ، و كم من دعوة قام بها المتأخرون أفضل مما فعل ناقلوها ؟ . علينا أن ندعو بالكتابة و بالحديث و بالموعظة الحسنة و بالقدوة الحسنة. علينا أن ندعو في المدن و الأرياف و في أعالي الجبال و في السهول و الصحارى و نترك التلبية لمن يعتبر و لمن يسدده الله إلى الصواب. و علينا أن نعلن دعوتنا و نجهر بها فى كل وقت و في كل مكان كي تنهض الأمة من سباتها.
التلبية
التلبية هي رفع الصوت بإجابة الدعوة، و يرددها الحاج في كل مسيره إلى الحج و خلال الحج و هي عبارة عن إعلان و تعبير حر و علني عما يدور في قلبه. و هي إشارة إلى حرية التعبير العلني في الدعوة إلى البر و العمل البار. و إذا رفع العبد صوته في خير بقاع الأرض معلنا وجوده و استقلاليته و مخاطبا الله سبحانه و تعالى و لا ينوب عنه في ذلك أحد ، فمن حقه أن يعبر عن رأيه إمام جميع الخلق و في كل مكان طالما لا يعتدي على حق غيره . و الله سبحانه و تعالى عالم بما في قلب المسلم لكنه يحب أن يسمع منه و هو يعبر عما يختلج في صدره علنا أمام الجميع ، أنها حرية التعبير.
الإحرام
الإحرام في الشكل هو ابرازللبدء بشعيرة الحج و لكن فى الباطن هو الامتناع عن المباح في وقت التفرغ للعبادة ، إنه التفرغ الكامل فلا كلام و لا متعة و لا لهو مع التوجه إلى الله العزيز الجبار. و ما أحوجنا إلى الامتناع عن كل مباح لتقديس واجباتنا و التفرغ بإخلاص لأداء إعمالنا . أنها دعوة إلى التخصص و دعوة إلى التفرغ و دعوة إلى الإتقان و دعوة إلى الإخلاص في العمل، و هي الحكمة من وراء هذه الشعيرة.
الطواف
لقد جعل الله الطواف بالكعبة مشابها لطواف الملائكة حول العرش للدلالة على تمام تعلق القلوب و الالتفاف حول عبادة الخالق و حول هذا الدين، و القلوب عادة ما تطوف حول من تحب. و وجود البيت الحرام على يسار الطائفين زيادة في الإشارة إلى تعلق القلوب. و الطواف عادة حركة جماعية متواصلة مع حرية فردية بمعنى أن هذا التعلق يحتاج إلى حركة و عمل متواصل يحمل معانيه و يبرزها، ويدل كذلك على تناسق وتكامل بين عمل الفرد وعمل المجموعة فكلاهما يكمل الآخر.
السعي
لقد ارتبط السعي في الحج بفعل السيدة هاجر حينما كانت تسعى بين الصفا و المروة للبحث عن قافلة أو مصدر عون لها و لابنها الرضيع ، فهي كانت مؤمنة و تعرف أن الله لن يضيعها و لكنها لم تجلس مع هذا اليقين و تدعو الله ليفرج كربها . في الواقع هي بادرت إلى السعي و سعت سبعة أشواط و لم تتوقف حتى رأت الماء يتدفق عند قدمي سيدنا إسماعيل عليه السلام، و أنا متأكد لو أنها لم تره لاستمرت في السعي ربما إلى سبعين شوطا. و لا أخالها الا أنها كانت تسعى و تدعو الله مع كل خطوة تماما كما يفعل الحجيج الآن .
و الحكمة هنا تكمن في السعي في طلب الرزق و السعي في طلب الحق و السعي في طلب العدل، و السعي في طلب الكرامة و السعي في طلب العلم و السعي في طلب كل ما فيه خير للدنيا و الآخرة.
الوقوف بعرفة
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: الحج عرفة. ففي عرفة إظهار لموقف العبودية لله في أكبر تجمع تعرفه الأرض و يباهى به المولى عز وجل الملائكة في السماء.و إذا كان الله تعالى يحب أن يرى عباده و هم يتخذون موقفا واحدا و في يوم واحد و في مكان واحد، فان في ذلك دلالة على أهمية الجماعة و الإجماع و بالتالي أهمية حق التجمع للناس للدفاع عن حقوقهم أو المطالبة بها. و علينا أن ننقل هذا المثال إلى حياتنا و نعبر عن حاجة الأمة إلى الخروج على القيود التي فرضها عليها ملوك الأرض فالله سبحانه و تعالى لم يبعث الرسل إلا لمحاربة الطواغيت في قلوبنا وفى بيوتنا و في حكامنا و في أنظمة حكمنا.
رمى الجمرات
شعيرة رمى الجمرات هي إحدى أعمال الحج التي ترتبط بفعل سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما حاول الشيطان أن يغريه بعدم طاعة الله في ذبح ابنه إسماعيل. أنها رمز لمحاربة دعوات الكفر و الانحراف و أجمل تطبيق لرمى الجمرات نراه في انتفاضة أبطال الحجارة في فلسطين المحتلة ، فهم بفعلهم هذا يرجمون شياطين الأنس. و هذا هو الحد الأدنى في الصراع مع الباطل و جنوده، و ربما تكون سلاح الشعوب الأخير ألا و هو ثورة الحجارة.
النحر
أنما جعل الهدى للحاج و جعلت الأضحية لغير الحاج لإحياء سنة الله في فداء إسماعيل عليه السلام عندما أطاع إبراهيم ربه و أطاع إسماعيل ربه و رضا بقرار أبيه الطائع لله ففداه الله بذبح عظيم . و يقول بعض الفقهاء إن ذلك الكبش كان لأبونا آدم عليه السلام فى الجنة ، و يبنون على هذا أن إخلاص الأجداد ينفع الأحفاد تماما كما قال الله في سورة الكهف : و كان أبوهما صالحا. و هي إكرام لفكرة الإخلاص و لمبدأ التضحية و رمز للاستعداد للفداء و لو بالتضحية بالأرواح و الدماء في سبيل الحق.
المرأة في الحج
لقد فرض الله سبحانه و تعالى العبادات على الجميع رجالا و نساء ، و الحج فيه أصعب أعمال العبادات و تقوم المرأة بها جميعا . و لا يوجد ممر خاص بالنساء و لا موقف خاص بالنساء و لا طواف خاص بالنساء و لا سعى خاص بالنساء، بل نحن عندما نسعى نسير على خطى إحدى سيدات هذه الأرض إلا و هي السيدة هاجر عليها السلام. و هذا برهان قاطع بحق المرأة في كل أمر يقوم به الرجال. فلها الحق في التعليم و العمل و الملكية و التعبير ناهيك عن قيادة السيارة أو الطائرة، أي لها الحق في كامل حقوق الإنسان.
فمتى نرى نهاية للتفرقة على أساس الجنس في أركان العالم العربي و الاسلامى فى جميع المعاملات؟
و متى نعترف بحق المرأة كاملا كما أراده الله سبحانه و تعالى ؟ و متى نحترم القيمة الإنسانية في المرأة ؟ و هي التي تزرع فينا هذه القيمة منذ الولادة، أهناك قيمة إنسانية أرقى و أسمى من حنان الأم؟.
و في الختام إذا كانت روح الحج هي التفرغ لله و الخلوة بالله و الفرار إلى الله فبإمكان كل مسلم أن يفر إلى الله و لو لحظات في كل يوم في حياته. و ذلك كلما جلس يذكر الله تعالى، أو يصلى لله تعالى، أو يتأمل في عظمة الخالق من خلال جمال و روعة المخلوقات. و من اعتاد على دوام الفرار إلى الله لذة بلقائه و حبا فيه يتحول إلى حاج طوال حياته؛ و هذا هو الذي يستحق لقب الحاج فعلا، اى الحاج الشاكر الذاكر الصائم العابد الزاهد القريب إلى الله و هو حج الخاصة.
No comments:
Post a Comment