التعليم العالي هو المرحلة الثالثة من مراحل التعليم المختلفة، وتعني هذه المرحلة بإعداد الكوادر المؤهلة للعمل التخصصي، كما تساهم في إعداد الكوادر البحثية و التعليمية لهذه المرحلة فيما يعرف ببرنامج الدراسات العليا و البحث العلمي. ولقد شهدنا في المدة الماضية بعض الدراسات الميدانية التي تعنى بمستويات التحصيل العلمي و القدرات لدى طلاب التعليم العالي و بالرغم من فائدة هذه الدراسات لكنها تقف عند وصف المعضلات. والتعليم العالى فى الحقيقة لايكون ولا يبني القدرات ولكنه ينميها ويحددها في مجال التخصص، أما بناء القدرات وإكتشاف المواهب وتنمية الإبداع وروح الإختراع، فمكانها في مراحل التعليم الأساسي. وأنا أرى دور التعليم العالي مثل دورمدرج المطار الذي يؤهل الطائرات للإقلاع والإنطلاق و لكنه لايبنيها و كذلك التعليم الجامعى يعد الطلاب للانطلاق فى الحياة على أساس القدرات التى ترعرعوا عليها فى مراحل التعليم السابقة. وقد كتبت في السابق بعض المقالات تحت عنوان معالم التيسيرفى برامج التعليم النموذجية ويمكن العودة اليها.
أما فيما يحتاجه التعليم العالي بوضعه الحالي من إصلاح تطوير فيمكن تلخيصه في الآتي:
الإستفادة من الخبرات الوطنية
تأهيل الكوادر الحالية والجديدة
إعطاء الاستقلالية للجامعات و المعاهد
الإعتماد على المرجعية العلمية
تطوير الإمكانيات التعليمية و التدريبية
إعادة النظر في المناهج و التخصصات
تحديث هيكليات إدارات التعليم العالى
تفريغ الأساتذة للتعليم والبحث العلمي
تنظيم قطاع البعثات و الإيفاد
تنظيم متطلبات الاعتراف المحلى و الدولى بالجامعات و المعاهد الليبية
أولا: الإستفادة من الخبرات الوطنية
لقد تكون عدد لابأس به من الكوادر والخبرات الوطنية خلال أكثر من نصف قرن، وقد يمثل الرعيل الأول و الذي تحصل على المؤهلات العليا قبل عام 1985 ، مع وجود بعض النماذج الجيدة في الأجيال الأخيرة. ولكن قرار أمين التعليم الأسبق بجعل سن التقاعد لأساتذة الجامعات لا تزيد عن اثنين وستين عاما كان مجحفا بهم وضاراً بالجامعات و المعاهد العليا،ومهما كانت أسباب هذا القرار أرى أن الرجوع عنه سوف يعيد للجامعات نخبة من خيرة الأساتذة. و يمكن لنا أن نرفع سن التقاعد إلى سبعين سنة مع التخفيف فى الحمل الإسبوعي بعد الثانية و الستين إلى أربعة ساعات فقط في الإسبوع؛ ويمكن الإستفادة منهم كمرجعيات علمية و بحثية و إدارية على سبيل المثال لا الحصر على الشكل الاتى:
لجان ضبط الجودة في التعليم الجامعي العام و الخاص
لجان تقييم المناهج و أساليب التدريس
لجان إستشارية بالكليات و المعاهد
لجان تقييم البحوث العلمية وإمتحانات الدراسات العليا
لجان إعداد ومراجعة اللوائح والنظم الإدارية
لجان تقييم الاداء السنوى لاعضاء هيئة التدريس
مشرفين وموجهين للطلاب
ثانيا: تأهيل الكوادر الحالية و الجديدة
في أغلب الأحيان يتم توجيه اعضاء هيئة التدريس الى الدخول إلى قاعات المحاضرات دون أي إعداد يذكر، فإذا كان أحدهم من الطلاب النجباء أصلا و مر بمرحلة إعداد جيدة فإنه يواجه الموقف ببعض الصعوبات ويبني نفسه من خلال التجربة. أما إذا كان في الأصل ضعيفا أو موظفاً قبل التحول إلى التدريس فهناك مشكلة و خاصة مع حملة الماجستير ، وقد ثبت هذا بالتجربة في مواقف كثيرة.
ولهذه الاسباب و من اجل اعداد الكوادر الجديدة و تطوير قدرات هذه الكوادر ، فإني أقترح الآتي على سبيل المثال لا الحصر:
دورات في طرق التدريس
دورات في اللغة الإنجليزية
دورات في اللغة العربية
دورات في إستخدام الحاسوب
دورات في طرق الإشراف على البحوث والمشاريع
دورات في إدارة الجامعات و المعاهد
دورات في وضع وتطوير المناهج
وهذه الدورات يمكن أن تعقد خلال العطلات أو بين الفصول الدراسية؛ ومعظمها يتم في يوم أو يومين بطريقة مكثفة بإستثناء دورات اللغة علما بان الكثير مثلها يعقد فى اعرق الجامعات فلا عيب فى طلب العلم مهما كانت درجة المتلقى.
ثالثا:إعطاء الإستقلالية للجامعات و المعاهد
في الأونة الأخيرة تحولت الجامعات و المعاهد إلى إدارات من ضمن أقسام أمانة التعليم، ويتم توجيهها من خلال موظفين ليس لديهم المؤهل أو الخبرة في إدارة الجامعات. وإذا أضفنا إلى هذا تدخل أجهزة الدولة المختلفة فيها تتحول الجامعة إلى جهة لتحقيق المصالح الجهوية و القبلية مقابل ترقيات إستثنائية أو قرارات إيفاد بدون إستحقاق بينما يضيع مستقبل الأجيال من خلال الأخطاء المتراكمة و التجاوزات و تكدس المتعثرين بالكليات.ولكي تقوم الجامعات و المعاهد العليا بدورها يجب ان لا تخضع الى إدارة أية جهة عدا الإدارة العلمية المؤهلة و المنتخبة من بين أساتذة الجامعات المشهود لهم بالخبرة و الكفاءة.
رابعا: اعتماد المرجعية العلمية
الجامعات و المعاهد العليا هي قلاع علمية بالدرجة الأولى، ويجب أن لايحدث فيها أي تجاوز للشروط العلمية المتبعة في أي مستوى، فلايجوز ترقية أساتذة بشكل إستثنائي من قبل أمين لا دور له في التقاليد الجامعية العالمية العريقة والتي تنص على توفر شروط علمية و بحوث لمثل هذه الترقية. كما لايجوز إستثناء أي طالب من أي شرط من الشروط العلمية في الإلتحاق أو النجاح أو البقاء في الجامعة مهما كان وضع والده ومهما كان أصله وإلا سوف ندخل في متاهات التمييز بين الطلاب. كذلك لايجوز وليس من المنطقى أن يتولى إدارة بعض إدارات الجامعات من لم يتخرج من الجامعة أصلا.
خامسا: تطوير الإمكانيات التعليمية و التدريبية.
مع تطور العلوم والصناعات في العالم يجب تطوير الإمكانيات التعليمية و التدريبية من خلال توفير الكتب و المراجع و الأجهزة لأسباب علمية صرفة،ولا تبني القرارات على مصالح تجارية شخصية لفئات معينة داخل أو خارج الجامعة. وهنا كذلك يجب أن لا ننسى توفير الخدمات المساعدة للعملية التعليمية من مواصلات وقاعات و مكتبات و بيوت طلبة و طالبات ووسائل رياضية و ترفيهية داخل الجامعات و المعاهد.
سادسا: إعادة النظر في التخصصات و المناهج
لقد مر على تأسيس بعض الكليات عشرات السنين، ومع تطور التقنيات و تطور الأحداث في العالم عادة ما يحدث تطويرها و تغييرها لتواكب حاجة المجتمع، وعليه فاني أرى ضرورة إعادة النظر في بعض التخصصات التي تخرج أفواجا من الطلاب لا توجد أماكن عمل لهم مثل هندسة الطيران و الهندسة النووية و الهندسة البحرية و هندسة التعدين و التقنيات الطبية و التي بعضها لايوجد له مثيل في العالم. وربمايكون الحل الأفضل جعل بعض هذه التخصصات للدراسات التخصصية بعد التخرج مثل النووية و البحرية و الطيران. وقياسا على هذه يجب إعادة النظر في المناهج. و من المفترض ان يتم تخريج أناس في تخصصات يحتاجها المجتمع و تتوفر فيها أماكن شغل و تواكب تطورات العصرو تلبى حاجة المجتمع الليبى بالدرجة الأولى.
سابعا: تحديث هيكليات إدارات التعليم العالى
لقد تعرض قطاع التعليم إلى تخطيط و إجراءات عشوائية قلصت الخبرات و قضت على الكثير من الإمكانيات وذلك بدمج جميع قطاعات التعليم و البحث العلمي تحت سيطرة مكتب أو مركز تخطيط التعليم. و بالتالي أصبحت الأمور تدار مركزيا بشكل إداري أو تجاري بحث. و أذكرعند التخطيط لأمانة البحث العلمي تم تكليف لجنة من عشرين أستاذا جامعيا و عدد من الأمناء لوضع تصور لها.
أما الأن فتدار الأمور بشكل مركزي لحل المشاكل اليومية بدون تخطيط و لهذا فاني أرى ضرورة عقد ندوة علمية للخبراء و المتخصصين لوضع تصور هيكلي لقطاع التعليم تكون فيه الخبرة و الكفاءة و النزاهة و الإخلاص هي المقياس و الاساس فى التعامل، على أن يتم إستحداث أمانة للتعليم العالى و البحث العلمى بالاضافة الى أمانة التربية و التعليم العام.
ثامنا: تفريغ الأساتذة للتعليم و البحث العلمي
نظرا لتدني مرتبات الأساتذة و إنعدام فرص المشاركة الفعلية في إتخاذ القرارات من خلال تغييب المرجعية العلمية و تعيين العمداء و رؤساء الأقسام بقرارات فوقية توجه العديد من الاساتذة إلى العمل في المعاهد و الجامعات و المدارس الخاصة. وهذا أدى إلى تدني مستوى العطاء و الإعتماد على الملخصات القديمة وبالتالي ساهم في تدني المستوى العلمي للجامعات و المعاهد. و الحل يكمن في تفريغ الأساتذة للتعليم العالي و البحث العلمي مع تحديد عدد ساعات الإستشارات لقطاعات الدولة ؛ وذلك بمنحهم مرتبات تعادل العاملين بعقود من الأساتذة إذا كانوا يؤدون نفس العمل و هذا أدنى درجات العدل فى المعاملة.
تاسعا: تنظيم قطاع البعثات والإيفاد.
جميع الموفدين للدراسات بالخارج ينفق عليهم المجتمع ولكن شروط الإيفاد والمعاملة تختلف من مكان لأخر، وبالتالي تسيطر الوساطة وا لمحسوبية في المعاملة قبل الإيفاد وخلاله وبعده. لذا فإني أرى ضرورة توحيد قنوات الإيفاد و توحيد الشروط و المواصفات المطلوبة في الموفد وربط كل هذا بحاجة المجتمع . و كذلك فإن أعداد من الموفدين فى الوقت الحالى تفوق أي تقديرات لفرص العمل في المستقبل، مع تدني المستوى العلمي لهم لدرجة أن بعضهم لا يجد قبولا في الغرب فيذهب إلى الدول العربية و دول العالم الثالث. وقد آن الآوان لأن تكون دراسة الماجستير محلية في معظم التخصصات لغير المعيدين بالجامعات مع التأكيد على رفع الحد الادنى لمتطلبات القبول للمعيدين الى معدل جيد جدا فى جميع السنوات، و تطبيق هذا على كل من يلتحق بقطاع التدريس فى الجامعات حتى و لو كان حاصلا على الدكتوراة.
عاشرا: تنظيم متطلبات الاعتراف المحلى و الدولى بالجامعات و المعاهد الليبية
مع تزايد اعداد الجامعات و المعاهد العليا ببلادنا الحبيبة فى جو غاب فيه التنظيم العلمى و الادارى ، بالاضافة الى دخول اعداد كبيرة الى هذا القطاع ممن لم يعدوا إعدادا سليما للعمل فيه ناهيك عن تولى تسيير اداراته تبرز الحاجة الماسة لضمان المستوى المطلوب من التعليم فى التخصصات المختلفة. و بالتالى يجب ان تخضع جميع الجامعات و المعاهد لتقييم دورى كل خمسة سنوات من قبل لجان علمية على مستوى عال من الكفاءة و يشاركها فى هذا النقابات المهنية المعروفة عالميا و ممثلين عن قطاعات العمل المختلفة و لا أرى حرجا فى الاستعانة ببعض الخبراء من الجامعات العالمية. و المواطن عندما يبعث ابنه او ابنته للدراسة يفترض جودة معترفا بها فى المنهج و المدرس و طريقة التدريس و التقييم و معتمدة رسميا من الاجهزة المشرفة على هذا القطاع و هذا على ارض الواقع غير موجود، فلقد تحولت الجامعات الاهلية الى حوانيت لبيع الشهادات. و الاعتراف الدولى مطلوب من اجل التبادل العلمى و التعاون فى البحث العلمى و الدراسات العليا، كما يعتبرالاعتماد و الاعتراف الدولى احد مؤشرات النمو الحضارى لبلادنا.
كانت هذه بعض الاراء و المقترحات التى أطرحها هنا للاطلاع و الدراسة بناءا على خبرة لا تقل عن اربعة عقود قضيتها فى رحاب الجامعات طالبا و معيدا و طالب دراسات عليا و استاذا و طالب علم و باحث من خلال مسيرة مرت باكثر من عشر جامعات بالداخل و بالخارج. إنني أدعو جميع العاملين بالجامعات و المعاهد الى تفعيل هذه المقترحات من خلال عرضها على الاقسام المختصة بالكليات و المعاهد و دراستها و تطويرها بما يخدم مصلحة الشعب الليبى و من اجل غد افضل للجميع.
و فى الختام أذكر الجميع بأن الجامعات و المعاهد العليا هى محاضن بناء المستقبل ووسيلتنا الوحيدة للحاق بدول العالم المتقدمة، و اذا اردنا الاصلاح فلا مفر من اصلاحها اولا فهى اداة الاصلاح الاكيدة وهى فى مكانة العقل من الجسم فى بناء الامة و بالفعل كانت كذلك فى السابق و قد بدأ يدب اليها الخلل للاسباب المعروفة للجميع. و بضاعة الجامعات هى العلم و يجب ان ترد هذه البضاعة الى اهلها.
اشكر من قام بهذا الجهد واعتبره كاوراق عمل ممكن تكون عليها عده ورش عمل فى لفاء وطنى بعنوان من اجل تطوير التعليم فى ليبيا الحره د عمر ربيده الصيدله طرابلس
ReplyDelete"أذكر الجميع بأن الجامعات و المعاهد العليا هى محاضن بناء المستقبل "
ReplyDeleteبالتأكيد أن المستقبل الذي يقصده الكاتب في هذه الحالة هو مستقبل ليبيا. وبما أن الأمر كذلك , اذا ينبغي أن نعيد النظر في جميع المناهج المقتبسة من الدول المتقدمة والغير متقدمة ونحدد ما اذا كانت تلبي احتياجات حاضر ومستقبل ليبيا وليبيا فقط. وعلى سبيل المثال ,هل طالب الليبي في حاجة الى مجموعة من المواد في تصميم الدوائر الكترونية وقد لا تصل ليبياالى مستوى الأحتياج لها الا بعد عدة عقود. أليس من الأفضل أن يستغل وقت الطالب وعقله في العلم والمهارات التي تنفع البلاد والعباد في ليبيا وما أكثرها , وما أحوجنا لها