كرامة المواطن في وطنه ليست حبرا على ورق ومقولات تعلق على الجدران بل قيمة حقيقية يراها في أعين أقرب من يحب وأقرب الذين يحبونه فهي تعكس سعادة وهناء الفرد والأسرة أو تعاسة عميقة في صدره إذا أخفق في توفير الحياة الكريمة لأسرته. وحتى إن وجدت المحبة الخالصة فالحب لا يشبع ولا يغني من جوع، فبعد المشاعر تأتي حاجات البيت ومتطلبات الأسرة والتي هي في ازدياد يوما بعد آخر.
وفي أدب الفن الشعبي نجد من يقول:
زمان نقص قلة صوب أقدارك على قيس سكرك
وهذه غناوة علم قالها صاحبها ليصف زمانه بالنقص وقلة التقدير وتدني قيمة المشاعر والمواطن حيث يقدر المرء على حجم ما يعطي. والعادة كانت أن الشاب الذي أراد أن يختار شريكة حياته في البادية يبدأ بالتعرف عليها بحضور أهلها فيزور البيت ومعه بعض من السكر والشاي ويفرش لهما مكان ليجلس عليه وتجلس الفتاة في طرفه في حضور أفراد من أسرتها ليتناولا أطراف الحديث فإذا توافقا وانسجما تطور الأمر إلى الزواج وإذا لم يتم ذلك على الشاب أن يعيد الكرة مع أسرة أخرى. وكان السكر في ذلك الزمان سلعة قيمة تباع بأجزاء الكيلو وكلما كان السكر أكثر كان الشاب أكثر مالا وأكبر اهتماما بالفتاة أو هكذا تنظر إليه أمها على الأقل. ثم أتى زمان تحسن فيه الدخل وأصبح للإنسان حساب في المصارف وكيس لحمل النقود فقال شاعر آخر على نفس الوزن:
زمان نقص قلة صوب أقدارك على قيس كيستك
وأصبحت المظاهر المادية لها تأثير السحر عند من يطلب الزواج ثم تلاه زمان فرضت فيه الدولة رؤية الاشتراكية الخضراء، حيث تحول كل مواطن إلى موظف يتلقى معاشا شهريا تحدده الدولة وبالتالي اختفت من المجتمع الليبي مظاهر العمل الحر من المقاول إلى التاجر إلى المحامي أو الصانع ووصل الحد إلى اختفاء العامل الحر الذي يعمل نظير أجرة، وبالتالي حددت الدولة مراتب كرامة المواطن. وسوف نتناول في هذا المقال علاقة الكرامة بقيمة الدينار في السوق، ولكي يكون الكلام علميا ومدعما بالأرقام سوف أتناول حكاية مدير استكشافات في قطاع النفط على الدرجة العاشرة.
كان دخل هذا المدير ألف دينار ليبي أي ما يعادل 3300 دولارا أمريكيا. ثم بعد صدور قانون (15) أصبح دخله 350 دينارا فقط أي ما يعادل 1300 دولارا أمريكيا ثم جاءت أزمة لوكربي وهوى الدينار الليبي إلى الهاوية فأصبحت القيمة الشرائية لمرتبه سنة 1996م تعادل مئة دولار فقط. وبالتالي أصبحت قيمة هذا الموظف المالية تعادل 3.3% من قيمته عند أول تعيينه، فهل بقي له كرامة بين أفراد أسرته التي كبرت مع الأيام وزادت مطالبها مع زيادة أسعار السوق السوداء و الحرة.
وفي إحدى الشركات الاخرى كان عدد العاملين حوالي ثلاثين موظفا متوسط دخلهم 350 دينارا ليبيا وبالتالي إجمالي قيمتهم المالية في حسابات الشركات تعادل حوالي 3300 دولارا أمريكيا بينما كانت تعمل بنفس الشركة سكرتيرة أجنبية تتقاضى شهريا 3500 دولارا أمريكيا ولم تتأثر بالقرار رقم 15. وبالتالي وضعنا قيمة ومجهود ثلاثين موظفا بدرجات مختلفة في حجم سكرتيرة تجيد الطباعة باللغة الإنجليزية. بهذه الطريقة استطاعت ليبيا أن تجعل تكلفة إنتاج برميل النفط صفر على الشمال بالليبي أو 2.7 دولارا أمريكيا، هذا في قطاع النفط أما في باقي القطاعات فحدث و لا حرج عن تدنى المرتبات و تأخر صرفها لعدة شهور، و كان الله في عون المتقاعدين أو من كان على الضمان الاجتماعي.
بهذا الشكل تم تمريغ كرامة المواطن الذي اضطرته الظروف كي يأخذ السلف ويشترك في جمعيات وقد يصل به الحال إلى قبول الرشوة أو اختلاس المال العام. وهذا دفع جميع أفراد الأسرة إلي العمل طلباً للرزق، حتى وصل الحال بكثير من الأطفال إلي الاتجار في السجائر و أكياس البلاستك أو نقل البضاعة في الأسواق، ناهيك عن بعض الأعمال المخالفة للشرع و القانون. و بالتالي انخفضت كرامة المواطن لأدني مستوى لها بسبب الفقر و الحاجة و أصبح يردد " عايشين من قلة الموت" وبدأنا نتحدث عن مشاكل الانتحار والمخدرات والتهريب و تدهور العلاقات الاجتماعية و تدني الأخلاق بصفة عامة. بينما نجد في المقابل بروز طبقة من أثرياء السلطة يلعبون بالمال و بالسوق و بمستقبل بقية الشعب في غفلة من جميع الاطروحات و القوانين التي أتت بها الثورة عبر مراحلها المختلفة.
كل هذه المظاهر لها علاقة مباشرة بمتوسط مستوي الدخل و قيمة الدينار الفعلية في السوق. و أنا هنا أثني علي الجهود المبذولة حالياً لتحرير الاقتصاد من القيود و رفع مستوي المرتبات لكني أري أن قيمة و كرامة المواطن في خطر مادام الدينار الليبي لا يأخذ قيمته الفعلية و المبنية علي الدخل الفعلي للبلد ناهيك عن رصيدها المالي و التاريخي في العالم. فإذا كان الدينار الليبي السابق يعادل أكثر من ثلاثة دولارات أيام فقرنا فكيف هبط إلي هذا المستوي في وقت نعتبر فيه من الدول الغنية بالموارد الطبيعية مع قلة سكانها و تساهم في دعم الشعوب الأخرى بالمساعدات و المنح و القروض. و الله سبحانه و تعالى يقول في محكم كتابه فى سورة الأعراف" و لا تبخسوا الناس أشياءهم" فكيف بنا و نحن نعتمد سعرا مزدوجا لصرف العملات، واحد رسمي تتعامل به الجهات الرسمية و من كان في حكمها و الأخر تجاري و يقل بأربعة أضعاف عن السعر الرسمي مما يثقل كاهل المواطن و يبخس حقوقه و يضيق عليه في عيشه و يحد من قدرته الشرائية.
إن هذا الوضع لا يستفيد منه إلا سماسرة السوق السوداء و لا يجلب لعامة الشعب إلا الشقاء و يجر الكثيرين منه لمسالك العار، و أنا هنا أدعو إلى إعادة النظر فيه و رفع الظلم عن كاهل المواطن بتوحيد سعر الصرف على السعر الرسمي القديم و تعويض المواطنين عن الأضرار التي لحقت بهم خلال المدة الماضية، والله المستعان.
No comments:
Post a Comment