Friday, December 10, 2010

قراءة في سيرة شيخ الشهداء عمر المختار



عمر المختار

لقد سمعت عن عمر المختار منذ نعومة أظفاري من خلال حكايات مدرسي المدارس الابتدائية في مدينة درنة، ومن خلال الحديث عن جمعية عمر المختار وهي المؤسسة السياسية الشعبية المعروفة، التي كان لها دور فعال في استقلال ليبيا.
ثم شاءت الصدف في إحدى الاحتفالات بعيد الاستقلال أن قدمت مفوضية الكشافة بدرنة تمثيلية بسيطة عن جهاد الأجداد وقمت فيها بدور عمر المختار . خلال هذا الدور لم أنطق بكلمة واحدة ، فاللقطة كانت لعمر المختار سجينا يقتاده الايطاليون، ولقد شعرت برهبة لم أعرفها في حياتي ، مرتديا الزى الليبي التقليدي ، ومقتادا من قبل الجنود ؛ أسيرا في السلاسل . ومنذ تلكم اللحظة ازداد اهتمامي وتعلقي بسيدي عمر المختار ؛ فقمت بالبحث عن كتاب لسيرته واقتنيته وقد لازمني طوال دراستي الثانوية في مكتبتي الصغيرة ، والتي كانت تضم كذلك سيرة أحمد بن بيلا وهوشي منه وعمر الخطاب رضي الله عنه ، بالإضافة إلى العديد من الكتب الإسلامية والثقافية.
وبعد الاهتمام  بسيرة عمر المختار من خلال السينما و الصحافة ، رأيت أن أعرج على بعض الدروس في سيرة عمر المختار. فعمر المختار يعتبر شيخ المجاهدين إسلاميا وشيخ المناضلين من أجل الحرية عالميا ، إذ لم تعرف البشرية قائدا مناضلا تم إعدامه في مثل سنه ، أو حتى فوق الخامسة والستين . ولقد مثل استشهاده قتل روح المقاومة الليبية على الأرض وذلك حينما استقر الأمر لإيطاليا على كامل التراب الليبي ولأول مرة. أجل لقد خذله الإعلام الليبي والعربي والإسلامي طويلا ، إذ هو بحق شخصية أسطورية في ساحة البذل والعطاء والصبر على مكائد الأعداء . وكنا نقول في صغرنا لو أن سيدي عمر عاش إلى زمن الاستقلال لأصبح غفيرا في إحدى المباني الحكومية، وذلك لما نراه من إهمال الحكومات المتعاقبة لرموز الجهاد الليبي.
ينتمي عمر المختار لقبيلة المنفة ، وهي ليست من القبائل الكبرى في برقه ، ولكنها لو لم تنجب إلا عمر المختار لكفاها ذلك فخرا، مع العلم أن العديد من رجال عمر المختار كانوا منها ومن بقية القبائل العربية في برقة وبعض المناطق الأخرى في ليبيا . وهنا كذلك يجب أن نعترف بأن الليبيين خذلوا عمر المختار و المجاهدين بصفة عامة ، فبينما لا يصل أعلى عدد لمن كان حوله من الرجال إلى  ألف رجل في أحسن تقدير، تطوع في الجيش الإيطالي عشرات الآلاف من الليبيين ، بل أصيب عمر المختار خلال اشتباك مع كتيبة من المجندين الليبيين، في الوقت الذي دل أحدهم الإيطاليين عليه حينما هتف " سيدي عمر" . أما من وضع حبل المشنقة في عنق المختار فلم يكن إيطاليا ، بل ليبيا من أصل تاورغى كان يعيش ببنغازي .
 وفي معركة العلمين الشهيرة، استسلم خمسون ألف مجند ليبي كانوا يخدمون تحت العلم الإيطالي ، ويمكن القول إن عدد المجندين من أصل ليبي في تلك الفترة داخل باقي المناطق الليبية ، لا يقل عن مئة ألف مجند. وليس هذا فحسب ، فكثير من المدنيين الليبين خدموا إيطاليا بإخلاص لدرجة أن عددا منهم نال الأوسمة والنياشين و الألقاب، ويحضرني هنا على سبيل المثال الشاعر أحمد قنابة ، الذي ترجم أناشيد الفاشيست إلى العربية لكي يتغنى بها تلاميذ المدارس كل صباح . ومن أراد المزيد فعليه الرجوع إلى قوائم الشرف الإيطالية وقوائم الضحايا وقوائم المجندين في الجيش الإيطالي.
كان عمر المختار مقاتلا شجاعا في المعارك، فهو لم يكن يقود المعارك عن بعد، بل كان يخوضها بنفسه إلى آخر أيامه في الجهاد. و كان يكر على معاقل الطليان على صهوة جواده وهو في سن الثالثة والسبعين عاما ، فلا نامت أعين الجبناء . كما كان صلبا عند المواقف، لم يتنازل ولم يصالح العدو، و ما كانت الدنيا ولا المناصب غاية له ، ولهذا لم تنجح معه إغراءات المستعمرين. كما أنه لم يحصل على أي تدريب خارج ليبيا ، بل أتقن فنون الحرب من خلال الممارسة الميدانية وقد أبدع في فنون حروب العصابات . لم يتخرج المختار من الكليات أو الأكاديميات العسكرية وانتصر في معارك عديدة على جنرالات إحدى الدول العظمى في زمانه. لقد صقلته التجربة الحركية، وتدرج من تلميذ في الكتاتيب إلى شيخ زاوية ومعلم ومربي؛ ليصير من ثم الشيخ المجاهد ثم الشيخ القائد إلى أن وصل إلى مرتبة شيخ الشهداء.
لقد كان  يتحرك في إطار أكبر حركة إصلاحية إسلامية شاملة في الوطن العربي وهي حركة ليبية بالكامل ، ويرجع الفضل في تأسيسها للشيخ محمد بن على السنوسي ، وما تركه الطليان من بقايا هذه الحركة الإصلاحية ، قضى عليه النظام الملكي رضوخا لنصائح وشروط المملكة المتحدة في إبعاد أبناء السيد أحمد الشريف وبعض رموز الجهاد عن الدولة الليبية . ومن يرغب في المزيد فعليه الرجوع إلى الوثائق المنشورة للحكومة البريطانية . وطوال حياته كان عمر المختار عابدا يصل بين الفروض والطاعات ، ويواصل قيام الليل تاليا لكتاب الله ، الذي كان يحفظه عن ظهر قلب ، ولقد كان ورده القرآن الكريم فهو يختم القرآن أسبوعيا. حري برجل كهذا أن يمهد الله له طريقا الى الجنة في خير المواقع ، مجاهدا في سبيله في أصعب الظروف  ؛ ليضئ الطريق للأجيال القادمة . إن أهم ما  يتحلى به أي قائد عظيم هو الإلتزام شخصيا بالمبادئ والمثل التي يدعو إليها ، وأهمها الاستعداد للتضحية وبذل النفس والنفيس في سبيلها قبل الآخرين ، و هذا ما تجسد في عمر المختار.
     بعد استشهاد عمر المختار في أشنع جريمة عرفها تاريخ البشرية وهي إعدام شيخ في الثالثة والسبعين شنقا أمام شعبه ، حمل أبناء المدن في برقة شعلة النضال السياسي تحت راية جمعية عمر المختار ، تيمنا بهذا الرمز الوطني الكبير وتحركت الجمعية في نضالها السياسي مع بقية الحركات السياسية في طرابلس وفزان للمطالبة باستقلال ليبيا خاصة بعد مشاركة أبنائها مع قوات الحلفاء في مصر. ولقد كان لجمعية عمر المختار دورا طليعيا في تحريك سكان المدن ، ولكنها فشلت في احتواء أبناء القبائل في برقة ، وهذا ما سهل القضاء عليها حين قرر العهد الملكي بناءً على نصيحة السفير البريطاني حلّ كل التنظيمات السياسية في ليبيا ، فلقد بات واضحا للمستعمرين في كل أرجاء الوطن العربي سهولة السيطرة على الشعوب ، التي لا توجد بها حركات أو تنظيمات سياسية .
وهنا يجب أن لا يفوتني أن أشيد بالرجال الذين أحاطوا بعمر المختار، فهم من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وظلوا أوفياء لله والدين والوطن حتى مات جلهم في المعارك التي تلت إعدام المختار. كما لا يفوتني أن أنوه بالكفاءات الليبية ، فتصور أخي القارئ معي لو أن عمر المختار تدرب في كليات و أكاديميات عريقة وكان مدعوما بصنوف المعدات والتقنيات المتوفرة للجيوش العربية حاليا ، ماذا كان بإمكانه أن يفعل ؟ كم نحن بحاجة لرجال من أمثال عمر المختار ورفاقه ؟
ولكي يوجد هؤلاء الرجال، علينا إعادة تربية وتدريب وتسليح شعوبنا وجيوشنا قادة وأفرادا، إذا أردنا أن يكون لأجيالنا القادمة مكانا تحت الشمس وفوق الأرض بين الشعوب. وفي الختام أدعو إلى إعتبار السادس عشر من سبتمبر عيدا وطنيا للشهداء تخليدا لذكرى شيخ الشهداء عمر المختار رمز الكفاح والنضال من أجل الحرية والاستقلال في العالم أجمع ، و اعترافا بتضحيات الأجداد ، و إعلاء لقيمة الفداء و الاستشهاد . ونسأل الله أن يتقبل جميع شهداء شعبنا الأبرار و يسكنهم فسيح جناته وأن يجعلنا خير خلف لهم.










No comments:

Post a Comment