الهوية لأي امة تحمل في طياتها أبعادا تاريخية و أبعادا ثقافية و أبعادا دينية و أبعادا اجتماعية و أبعادا بشرية و أبعادا اقتصادية و يلتقي هؤلاء جميعا في بصمات الهوية الحضارية ، و بالنسبة للأمة الإسلامية يمثل عامل الدين الاسلامى العمود الفقري لبقائها بينما تمثل اللغة العربية و هي لغة القرآن الكريم لسانها و وسيلة تعبيرها. و الكثير من التعريفات السطحية للهوية تحاول ربطها ببعض العادات أو المأكولات الشعبية في بعض المناطق و هذه إحدى وسائل الداعين الى تمزيق الأمة من المستشرقين و تلامذ تهم من الشعوبيين مثل محاولة استحداث هوية لكل قطر عربي.
و نلاحظ في وثيقة من إحدى وثائق الحكومة البريطانية، و قد سبق الإشارة إليها بطريقة عابرة في مقال سابق بعنوان : هكذا ضاعت الهوية، وفى هذه المرة نترجمها لكي تتضح الصورة اكثر.
قال اللورد مكوللى في خطابه للبرلمان البريطاني في يوم 2 فبراير من سنة 1835 م :
لقد سافرت في الهند طولها و عرضها ، فلم أجد متسولا أو نشالا، فمستوى الرخاء و مستوى الروح المعنوية العالية وأناس من هذا الطراز من البشر جعلني أرى استحالة استعمارنا لهذا البلد إذا لم ندمر العمود الفقرى لهذه الأمة، و الذي يتمثل في قيمها الروحية و الثقافية.
و عليه فأنى أقترح استبدال نظامها التعليمي القديم و ثقافتها؛ و على الهنود بعد ذلك أن يقتنعوا بأن كل ما هو أجنبي أو بريطانى جيد و أفضل مما لديهم و بهذا سيفقدون الاعتزاز بأنفسهم و ثقافتهم و يتحولون كما نريدهم إلى أمة مهزومة حقيقة.
و الذي لم يذكره هذا اللورد أن الهند كانت دولة إسلامية و لمدة عدة قرون، حيث حكمها المسلمون دون أن يدمروا هويتها الهندية، و لكنهم وفروا لها الرخاء و العدل و الأمان بالرغم من أن عدد المسلمين من الهنود كان يمثل حوالي سدس عدد السكان الاجمالى. و كانت حدودها مفتوحة للتجارة مع جيرانها من البلاد المسلمة و كلنا يذكر طريق و تجارة التوابل.
و المهم في هذه الوثيقة هو تخطيط الانجليز و الغرب بصفة عامة لتدمير عرى الهوية الإسلامية للعالم الاسلامى، ولا استبعد دورا للبابا و الكنيسة في مثل هذا الأمر، فقد سبق و أصدر البابا فى العصور الوسطى فرمان بمنع بيع الخشب و المسامير الكبيرة للمسلمين كي لا يبنون سفنا ضخمة تنافس النصارى في البحار. و كلنا يذكر الدمار الثقافى و الفكري الذى ألحقته فرنسا ببلاد المغرب العربي و بلاد جنوب الصحراء و بلاد الشام ، و لا زال أثرها بارزا في مجرى الأحداث في هذه الديار.
و نفس الأفكار التي استخدمت في الهند نجد معالمها في العالم العربي؛ حيث بدأت بمحاربة حركات النهضة الإسلامية في القرن التسع عشر على طول الأرض العربية من جميع الاتجاهات إلى أن وصل الأمر إلى احتلال معظم هذه المناطق.
ثم بعد ذلك تم استحداث و إخراج بعض الزعامات الضعيفة و جعلوها تثق في الغرب و تعتمد عليه في حماية أنظمتها الهشة. و بهذا خلت الساحة لهم ليتمكنوا من ضرب النظام التعليمي تحت شعار تطوير التعليم و تحديث المدارس و إدخال التقنية. و لقد نجحوا بدرجة مكنتهم من فرض الزى الاوربى محل الزى العربي و الاسلامى في كثير من البلاد. و أصبح لدى كل ملك أو أميرعربى مستشار غربي يساعده في إدارة أمور بلاده ، بل و يثق فيه أكثر من أبناء بلده، فيبعد من لا يحب الغرب و ينفى من البلاد من لا يحبه الغرب.
و بواسطة البعثات الدراسية بين الجانبين تمكن الغربيون من إعداد خبراء و أساتذة من المسلمين لينوبوا عنهم في الدعوة إلى التخلي عن قيم الإسلام ووصفها بالتخلف و الرجعية، ووصل الأمر يبعضهم إلى قطع الانتماء إلى الأمة و تبنى مناهج الكفر و الإلحاد و محاربة الإسلام . بل و زاد بعضهم على هذا بالدعوة إلى الرجوع إلى الأصول من فرعونية و فارسية فكرا وعقيدة.
و تحت شعار التسامح بين الأديان نرى كيف تم و يتم كل يوم تنصير أعدادا كبيرة من المسلمين في بلاد المسلمين و في بلاد العرب أيضا ، و إذا ساهمت الدول ووسائل إعلامها في زعزعة عرى الإيمان بالبرامج السطحية والإباحية يسهل على المبشرين إقناع البسطاء من الناس بيسر الديانة المسيحية .
و إذا تتبعنا آخر تطورات الأوضاع السياسية في العالم سيتضح لنا أن الغرب سعيد جدا بكل التطورات الديمقراطية في جميع بقاع الأرض إلا ديار المسلمين؛ ففيها تحلو الدكتاتورية و الظلم و الاستبداد و محاربة حقوق الإنسان.
و لقد تم تفكيك الاتحاد السوفييتي بسلام و برزت دولا متقدمة تنعم بعضوية الناتو و الاتحاد الاوربى و تركيا لا زالت تطرق الباب و يفرضون عليها شروط النسيب الكاره بالرغم من أنها عضو مؤسس للناتو. و أنا هنا لا يهمني أمر تركيا و أحبذ رفضها بالكامل لعلها تعود إلى رشدها و تعرف مكانها بيننا، و لكن للتدليل على وجود مخطط تدميري عالمي يرفض أن نتقدم كعرب و كمسلمين.
و كلنا يذكر عندما خرج علينا كبار ساسة أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بالقول المشهور: أصبح عدونا الأول الآن الإسلام و العالم الاسلامى، و بذلك انتقل خط المواجهة إلى صقلية .
و كذلك تلاحظون معي استخفاف الغرب بالدول الموالية لهم، فهم لا يزودونها بالسلاح المناسب للدفاع عن نفسها بالرغم من المبالغ التي تدفعها لهم، بل يتركونها أسيرة للمخاوف المحيطة بها لتبقى على ولائها لهم دائما، كما أنهم لا يساعدونها في بناء التقنية الحديثة لكى لا تنهض، بينما سخروا لإسرائيل كامل جهدهم و علمهم و أموالهم ورجالهم و جعلوها الدولة الأسطورية في المنطقة و القادرة على هزيمة الجميع مجتمعين.
من كل ما تقدم يتضح لنا بان محو الهوية الإسلامية هو طريق الغرب و طريقته للسيطرة على شعوبنا و مواردنا و أراضينا، فهم بدؤوا الحملة وقت غناهم ولا أظنهم يتوقفون الآن عنها في وقت حاجتهم إلى الموارد و الاراضى و العمالة الرخيصة. و لقد بدؤوا هذه الحملة متفرقين و متنافسين و لا أظنهم يتركونها و هم مجتمعون و متفقون عليها و علينا . و نحن ، من نحن؟ لا حياة لمن تنادى.
No comments:
Post a Comment