Monday, May 17, 2021

 

مزايا حضارية إنسانية لأهالي مدينة درنة

د. فتحي رجب العكاري

28 يناير 2010

    يتميز أهل درنة ببعض المزايا الحضارية الانسانية التي لا يلتفت اليها العديد من الكتاب ناهيك عن عامة الناس؛ فهم يتميزون بحب العلم والمعرفة وسعة الاطلاع ولديهم جذور حضارية متميزة عن باقي المدن الليبية من تقديس للحرية والعمل على نشر العلم في جو من الخلق الرفيع والذوق العالي. وقد تطرق الى بعض هذه الجوانب كلا من أستاذى الفاضل مصطفى الطرابلسي في كتابه درنة الزاهرة وأخي الكريم د محمد المفتي في كتابه سهارى درنة، ولكنني سوف أتناول جذور التميز الحضري لأهالي مدينة درنة من زوايا مختلفة في مقال قادم بإذن الله تعالى بالتفصيل.

طلب العلم

        ينكب سكان درنة ومنذ نعومة اظفارهم على طلب العلم في المساجد والكتاتيب ثم في المدارس في العهد الحديث. فتجدهم ذوي ثقافة عالية وبينهم العديد ممن يتقن لغات اجنبية، كما انهم يجيدون العمل الوظيفي الى درجة التقديس ولديهم تقاليد مهنية في مزاولة العمل على أساس من النزاهة والاستقامة وروح من الوطنية واحترام الذات. وفي دراسة علمية للدكتور شعيب المنصوري أشار الى أن أبناء وبنات درنة يحققون أعلى معدلات التفوق والانجاز العلمي بالنسبة لعدد المنخرطين في التعليم على مستوى اية مدينة ليبية اخرى، كما تدل على هذا كذلك إحصائيات وزارة التربية والتعليم. والجامعات والمستشفيات والدوائر الرسمية في ليبيا تشهد بتاريخ طيب السيرة لأبناء مدينة درنة خبرة وعلما ومسلكا وكذلك الجامعات والمستشفيات في شتى بقاع الارض. وهذا بطبيعة الحال مفخرة لكل ليبي وليبية فالانتماء الى درنة هو في أصله انتماء للوطن من ليبيا الى العالم العربي والاسلامي.

رواد حضارة

      لقد حمل ابناء مدينة درنة شعلة النهضة والتنمية الحضارية شرقي مدينة المرج وحتى الحدود الشرقية بكل تواضع وتضحية من اجل ابناء الوطن.

فجميع المدارس في تلك المنطقة حمل لوائها ابناء درنة وفي ظروف مادية ومعيشية صعبة، لكنهم ساهموا في نشر التعليم في ربوع بوادي برقة.

بالإضافة الى التعليم نرى على الجانب الاقتصادي دورا للمنطقة حيث أن أبناء مدينة درنة هم من أسس معظم المصارف وادارها بنزاهة طيلة وجودهم بها، كما اشتغلوا بالتجارة و المقاولات وبالتالي وفروا حاجات المنطقة بالكامل. كما يجب ان لا ننسى دورهم على مستوى الدولة الليبية على جميع المستويات من الوزراء الى السفراء ووكلاء الوزارات وضباط الجيش.

وهنا تحضرني لمسة حضارية ففي مشروع زراعة الغابات بالجبل الاخضر في منطقة شحات والذي كان رواده من أبناء درنة حيث تولى الاشراف عليه السيد عصمان الجربى ثم تبعه بإحسان السيد ابراهيم بن خيرون. فقد زرعوا الآلاف من الأشجار ورعوها بكل اخلاص في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.  وفي حديث خاص مع المرحوم السيد ابراهيم بن خيرون لمست الحرقة في قلبه على المناطق التي أحرقها الرعاة طلبا للحطب، ففي ليلة واحدة يحرق شخص واحد مجهول سنوات من العمل المضني.  إنها هذه اللمسات الحضارية حيث يحب المرء انتاجه على الارض كما يحب أولاده.

                                                                                                                                                                                                                                     الوحدويةالروح  

       ان الالتحام العربي النقي في مدينة درنة جعلها مدينة وحدوية على المستوى القومي وليس المستوى القطري فقط فأكبر دعوات الوحدة الليبية والعربية كانت في مدينة درنة لدرجة أن النظام الملكي كان يتحسس من تعلق أبناء درنة بمصر وبعبد الناصر وبالثقافة العربية.  ففي درنة يلتقي المكي والمدني والشامي والمصري والمغربي والاندلسي والتونسي والليبي في عقد حضاري بديع والذي لا يعشق درنة بينهم ليس درناويا أصيلا.  وعشق درنة هو عشق للعرب الاطهار وقادة الحضارة الانسانية الحقيقية والتي تستمد جذورها من الاصالة الفطرية للبادية العربية شجاعة وكرما.

وفي مجال الروح الوحدوية تحضرني ابيات شعر ترنم بها شاعر ليبيا وأحد أبناء درنة المرحوم إبراهيم الأسطى عمر في مقالته الشهيرة مخاطبا مندوب الامم المتحدة في ليبيا، حيث قال:

إذا تسمع   فمطلبنا جدير         بان يعطى انتباها واهتماما

يريد الشعب   وحدته ففيها      كرامته ولا يرضى انقساما

يريد الشعب دستورا كريما      يصون حقوقه من ان تضاما

يريد الشعب تمثيلا صحيحا           ليحكم نفسه حكما قواما

يتضح من هذه الأبيات المطالب الشعبية بليبيا وفي جمعية عمر المختار في درنة بالحرية والاستقلال في ظل وحدة البلاد وفي نظام دستوري يحفظ الحقوق، وتمثيل نيابي صحيح يضمن رقابة الشعب وحماية مصالحه وهو ما نسميه بالديموقراطية.

ثم بعد ان تناول بعض شؤون ذلك الزمان عاد شاعرنا للتأكيد في آخر خطابه على الوحدة حيث قال

الا يا أيها المندوب حاذر      من التقسيم إن شئت احتراما

فوحدة ليبيا لابد منها               لتنفيذ القرار بها دواما

ووحدة شعبنا بمقومات         أتت كالشمس بددت القتامة

فنطق الضاد منطقنا جميعا    ودين الشعب إسلام ترامى

وذا التاريخ والعادات فينا     وذي الانساب تجمعنا تماما

ورقعة أرضنا ابدا جميعا      فلم نعرف لوحدتها انقساما

وأما ما اقتضته ظروف حرب   من التقسيم لا يبقى لزاما

ولقد برز في الحراك السياسي في درنة قبل الاستقلال عدد من الشخصيات البارزة التي كان لها دور فيما بعد في الحياة السياسية وفي الدولة الليبية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر:

على باشا العبيدى

عبد الرازق شقلوف

عبدالله محمد سكتة

عمر فائق شنيب

علي اسعد الجربي

مصطفى بن حليم

الصالحين بن سعود

عبد الحميد بن حليم

عبد الكريم لياس

وبالرغم من الحضور الكثيف لأبناء درنة في دواليب الدولة لا تجد من بينهم من ينحاز لمدينته؛ واذكر أنى مرة سالت أحدهم وهو الحاج عبد الله سكتة: لماذا أهملتم درنة؟ فأجاب: كانت رؤيتنا وحدوية ووطنية وقومية، كنا نفكر كيف تنجح ليبيا ولم نفكر في عائلاتنا أو قبائلنا أو مدينتنا. أنهم جيل الرعيل الاول، جيل النهضة

تقديس القيم الإنسانية

      يقدس أبناء درنة الحرية، حرية وكرامة الانسان وحرية الفكر وحرية الرأي وحق الانسان في التطور والتقدم؛ فالجميع في درنة احرار مع الاحترام لكل قادم غريب اليها. واذكر هنا بيت شهير لإبراهيم الاسطى عمر عندما طلبوا منه الامتناع عن العمل السياسي فقال

قيل صمتا، قلت لست بميت       إنما الصمت ميزة للجماد

وقد تحركت في نفسي شجون ومشاعر انسانية عندما سمعت مونولوج للفنان مصطفى البتير افتتحه بكلمات رجل من أصل افريقي كان يطلب الصدقات في درنة يقول " امعيشة ربي " فالتراث الشعبي الدرناوي لا يهمل احدا ولا يهمش غريبا او فقيرا.

كما يمكننا تلمس البعد الإنساني فى الفكر الدرناوى من خلال أبيات الشعر إبراهيم الأسطى عمر رئيس جمعية عمر المختار بدرنة وزعيم نهضتها السياسية الحديثة، عند ما تمنى سمو الروح الإنسانية على نزعة الجور والانتقام للمنتصرين في نهاية الحرب العظمى سنة 1946 ميلادية حيث قال:

هكذا لو فهم   الغالب             معنى الانتصار

وقضى بالعدل في المغلوب      رشدا واعتبارا

لرأينا الناس اخوانا              يراعون الجوار

همهم، تفكيرهم، بل           سعيهم، نحو العمار

فاذا الكون نعيما                   وإذا الناس خيارا

يشمل الناس الوئام                وعلى الأرض السلام

وهكذا كان الفكر السائد في درنة في ذلك الوقت يتمحور حول القيم الانسانية من عدل وأخوة في البشرية وحرية ومساواة وسعى للإعمار من أجل سلام عالمي دائم.

ولقد وقفت درنة بحضرها وبواديها دائما ضد الاحتلال والاستعمار والقواعد في أي موقع من الوطن العربي جيلا بعد جيل؛ وشارك العديد من أبنائها في حرب فلسطين وفي دعم الشعب الجزائري خلال محنته.

فن وذوق وأخلاق

        الحياة فن وذوق واخلاق كلمات جميلة كحقيقة في الواقع وليس كلوحة فنية على الجدران، وهذا كان جليا في درنة حينما تخلو الشوارع من الناس وتلتقي المجموعات لمتابعة خطب عبد الناصر وأغاني أم كلثوم ليلة الجمعة أو حفلات السيدة فيروز وكذلك الاهتمام بكتب الادب والشعر العربي ومتابعة أخبار الرياضة الجميلة والنزيهة عبر الاذاعة او عبر التلفاز، ناهيك عن النشاط المسرحي المحلي الذي ساهم في بناء وجدان قومي وتاريخي يربط الاندلس ببغداد بذاكرة الانسان.  ليس هذا فحسب، بل يتمتع أهل درنة بذوق رفيع في حب الزهور مثل الزهر والياسمين وأذكر شوارع درنة تزينها الورود وتفوح من بيوتها رائحة الزهر صباحا ورائحة الياسمين مع الغروب.

وادي درنة

وهنا تحضرني أبيات ترنم بها شاعر درنة المرحوم المبروك عبد العزيز الجربى عندما قال في وصف درنة:

عبق التاريخ يضمخها        شفق الأفاق يحنيها

نسمات الفجر تصبحها       زفرات الورد تمسيها

يجلو الشلال مفاتنها          والبحر يمسد رجليها

عرس لا يهدأ محتدما        وعروسا تتأود تيها

دالُ  دعوات صحابتها       و دماء مصارعهم فيها

راءُ  رشفات مناهلها         و روائع همس سواقيها

نونُ ونواح حمائمها         وشجى نياح بواكيها

هاءُ  هى همى و هيامى     و هواجس كل محبيها

ويصور لنا الشاعر في هذه الأبيات درنة كعروس جمعت بين الجمال والجلال عبر تلاقى الماضي والحاضر وبركات الصالحين فيها وهواجس حبٍ من كل بنيها.

مزارع الإخلاص

      يطيب لي أن أطلق هذا الاسم على مدارس درنة كما عرفتها، فلقد غرست في نفوسنا حب الاخلاص والتفاني في العمل من خلال الممارسة العملية لمعلمينا.  فلم يكن الامر شعرا او نثرا أو خطب رنانة ولكن كان اخلاصا يمشي على الارض في شكل رجال ذوي مؤهلات متوسطة أو بسيطة؛ ولكنهم بالحرص والاخلاص خرجوا أجيالا من الشباب المخلص المتفوق المعطاء. تصوروا معي مدرسا محدود الدخل جدا يأتي بعد الظهر ليعطي دروسا اضافية مجانية للجميع في اللغة العربية والدين والحساب لكي يضمن التفوق لأبنائه الطلاب وأذكر منهم الاستاذ عبد الله بلها والاستاذ عوض دربي والأستاذ عبد الكريم فنوش، إنها الوطنية وروح الانتماء وهذا كان يحدث في كل المدارس.

جزى الله معلمينا عنا كل خير وجعل هذا الجهد في ميزان حسناتهم. ولا أملك هنا إلا أن اذكر اصحاب الفضل على شخصيا من اساتذة مدينة درنة في الفترة الزمنية من 1956 الى 1968ميلادية وهم:

الاستاذ محمد أبوماضي   

الاستاذ فرج ابوالقاسم

- الاستاذ مصطفى الطرابلسي

- الاستاذ سالم اسطى عمر

- الاستاذ رمضان الشويهدى

- الاستاذ أحمد أبوزيد

- الاستاذ سعد الشويهدى

- الاستاذ عبدالكريم فنوش

- الاستاذ عوض دربى

- الاستاذ عبدالله بلها

الاستاذ سليمان زقلام

- الاستاذ على عبدالجواد الشاعري

- الاستاذ سالم بن خيرون

- الاستاذ عبدالله فيتور

- الاستاذ عبدالمنعم فرج الرباطي

- الاستاذ سعد ابريك

- الاستاذ عبدالكريم فيتور

- الاستاذ أحمد لياس

- الاستاذ ابراهيم اشليمبو

- الاستاذ محمود الديباني

- الاستاذ صالح الزني

- الاستاذ انور الغرياني

- الاستاذ فرج فيتور

- الاستاذ عبدالسلام قربادي

ولو كتب لي يوما أن أصنع تاجا أو أكليلا لصنعته من أغصان "تفاح درنة" ولكتبت على كل غصن اسم عائلة من عوائل درنة وعلى كل ورقة اسم أحد معلمي درنة عرفانا بالفضل واكبارا للجميل فهم سر تميزنا، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله والحمد لله رب العالمين.

No comments:

Post a Comment