Saturday, May 1, 2021

 


  قراءة في فلسفة التربية الاسلامية

د فتحي رجب العكاري

 إن الاهتمام بتربية الجيل الجديد هو أهم عناصر تقدم الأمم فهم رجال المستقبل وحملة أفكار الأمة وبذلك يحملون بذور بقائها واستمرارها. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أعطى هذا الموضوع جل اهتمامه فهو كان رقيقا ورفيقا ورحيما مع الأطفال في داخل بيته وخارج بيته، بل كان مدرسة خاصة في مجال التربية تغرس أسس الإيمان في سن مبكرة في نفوس الأطفال بيسر وسهولة. كان أساس مدرسته وشعارها يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وهذا نلمسه بوضوح في حديث الغلام.

الحديث الشريف

        عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال لي:

يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف.

 رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
    

       تتجلى في هذا الحديث الشريف ملامح فلسفة التربية النبوية في تنشئة الجيل الجديد، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم يحمل الطفل خلفه على الدابة ويغمره بالعطف والحنان فيتحدث إليه كي يستفيد من وجوده معه فينفعه ببعض الكلمات. والرسول في هذا الموقف لا ينتظر سؤالا من الغلام كي يجيب ولكنه يفتتح الكلام بخطاب ود، فيناديه يا غلام. وفي هذا الأسلوب حكمة وبلاغة مع رفق بالمخاطب، فكلمة يا غلام جعلت الأمر يعنى كل غلام، أي كل طفل غير بالغ للتكليف ولو ناداه باسمه لكانت المعلومة تخصه هو فقط ولا تعنى غيره. ثم أفاده بأنه يريد أن يعلمه كلمات كي يجذب انتباهه لما سيقول له، فالتعليم ليس مجرد حديث عابر بل يهدف الى توصيل معلومات تناسب قدرة المتلقي. وهنا يبرز اهتمام الرسول الكريم بتعليم طفل لم يبلغ الحلم، فهو يعطى جزءا من وقته لتعليم الغلام وفي هذا تثمين لدور الجيل الجديد فهم سيكونون قادة المستقبل. أما لفظة كلمات فتحمل في طياتها كلمات لها قيمة ووزن وأبعاد فكلما قل الحديث زاد تركيزا وأبعادا، وبالتالي على السامع أن ينتبه لكل كلمة منه فهي ليست بالحديث الطويل وهذا كذلك من الرفق بالمتلقي في مثل هذه السن. ثم بعد ذلك دخل في التوجيهات النبوية فقال له: احفظ الله يحفظك، وكلمة احفظ كلمة جامعة لمعان عديدة فمنها الحفظ بمعنى التذكر ومنها الحفظ بمعنى إعطائه ما يناسب قدره ومنها التعلق به ومحبته ومنها المحافظة على السمع والطاعة أو احترام حدوده وكل هذه المعاني تنمو مع الغلام مع سنوات تقدمه في السن فهو يبدأ بالأصل وهو الحفظ في القلب في الصغر وينتشر هذا الحفظ ليغطي كل خطوة يخطوها في حياته. وجعل الرسول الكريم جزاء هذا الحفظ أن يحفظه الله، فيبدأ الحفظ في النفس والبدن في الطفولة وينمو مع الأيام ليغطي الحفظ في الطاعات والحدود والعقائد والنيات.   والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد للغلام كيف يحفظ الله ولم يكلفه بعمل من العبادات بعينه ولكنه شرع له الأساس ألا وهو حفظ الله، وهذا الحفظ ينمو ويتطور مع تقدم سنه وبالتالي بلوغه التكليف في الشريعة الإسلامية، وهذا جانب هام في إستراتيجية منهاج التربية النبوية. ثم يؤكد الرسول الكريم على حفظ الله فالعملية ليست بسيطة في ذاتها والأجر عليها لذلك مضاعف فيقول له: احفظ الله تجده تجاهك. وهنا يبرز حفظ الله بدوام ذكره ودوام التعلق به وعندها تحدث المعية، ويحضرني نصيحة أحد المربين بقوله لغلام من المتأخرين عند ما تغدو إلى فراشك قل: الله معي، الله شاهد على، الله ناظر إلى. وبطبيعة الحال يتطور الحفظ مع دوام العبادة والتقدم في السن وبهذا تتطور المراقبة لله مع الأيام.

ثم بعد ذلك ينتقل الرسول الكريم من محطة التعلق بالله على نمط التعلق بالوالدين فيتحدث عن السؤال فهو يعرف أن الطفل في هذه المرحلة عادة ما يسأل والديه أو من يرعاه، وهو بالتالي يعرف معنى السؤال وقيمته فيوجهه الرسول الكريم إلى سؤال الله سبحانه وتعالى فيقول له: إذا سألت فاسأل الله. فمن غير الله يعطى أو يمنع، ومن غير الله يجيب دعوة المضطر إذا دعاه. و الله سبحانه و تعالى يسخر من خلقه من يجيب المسألة، فكل الخلق هم أدوات لتوصيل كرم الله وفضله الى من يشاء من عباده. والرسول بهذا التوجيه يريد أن يثَبت في نفس الغلام أن الإجابة لكل سؤال تأتي من عند الله. وبعد السؤال يأتي دور الاستعانة فيقول له: وإذا استعنت فاستعن بالله.  فالله هو القادر القاهر ومصدر كل حول وقوة، فهو أولى أن يستعين به في كل حال، وهذا التوجيه منسجم مع قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين. وإذا كون الغلام علاقته بالله بدوام الحفظ وتوجيه السؤال والاستعانة فإن الرسول الكريم لا يريده أن يعلق أماله على البشر ولا أن يخشى منهم بأسا فالله قد كتب له رزقه ونفعه وضره مثل ما كتب عليه يوم اجله، فيقول له اعلم علم اليقين الذي لا شك معه أو فيه أن اجتماع كل الأمة ما كان لينفعه أو ليضره إلا بشيء قد كتبه الله له أو عليه. وبالتالي عليه ألا يخشى إلا الله ولا يرجو إلا كرم الله وفضله، إن مثل هذا التوجيه النبوي يعد رجال المستقبل ويؤسس لقادة الأمة فيضع حجر الأساس لتفكير استراتيجي ينمو ويزداد ترسخا ووثووقا مع الأيام.

 والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكلفه بعمل من أعمال العبادة أو المجاهدة أو حفظ القرآن أو النوافل فهو يعرف أنه غير مكلف وبالتالي أوحى إليه بأصل هذا الأمر ألا وهي المبادئ التي تنبني عليها الحياة الإسلامية. ثم يختم كلامه بأن هذا الأمر رباني وعام وصالح لكل غلام في أمة الإسلام وبأن هذا التوجيه ثابت ومرتبط بكل أحكام الدين وأنه أصل ولا قول بعده حين ما يقول له: رفعت الأقلام وجفت الصحف، أي أن هذا الأمر تم الفصل فيه.

        ألا ترون أنه يجب على المربين والمعلمين والآباء أخذ العبرة من هذا المنهاج النبوي فلا يحملون الأطفال فوق طاقتهم ولا يطلبون منهم أداء فرائض أو نوافل لا تجب عليهم ولا تناسب سنهم، وهذا الأمر هو من أسس فلسفة التربية الإسلامية فالمرء مطالب بمعرفة أحكام ما يجب عليه تأديته من أحكام الشريعة. وجودة التوجيه والتعليم وقيمة محتواه هي الهدف وليس كمية أو حجم المعلومات، مع اختيار أنسب الأوقات وألطف الأساليب.  فالغلام كان منفردا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وملاصقا له على الدابة ويشعر بقربه وحنانه ورحمته مثل ما يعرف له قدره وبالتالي كان استقباله رائعا فوعى الدرس ونقل إلينا هذا الحديث ثم كبر مع الأيام ليصبح أحد أشهر علماء هذه الأمة وكان نعم التلميذ لأفضل معلم عرفته البشرية عليه الصلاة والسلام.

 

No comments:

Post a Comment