Sunday, January 16, 2011

نموذج من الإبداع الليبي: الفنان بشير حمودة

                الإبداع في أي مجتمع هو كالروح في الجسد ، فهو يحمل في طياته الأمل و التطلع للمستقبل و القدرة على صناعة التقدم. و المبدعون هم شموع تحترق في دياجير الظلام لتنير الطريق للآخرين في صمت عميق. و قيمة الإبداع و المبدعين تزداد كلما خيم ظلام الجهل، أو التخلف الفكري ، عندها يبرز المبدعون يبعثون الأمل و يبددون الظلام ويحملون المشاعل في مجالات عديدة. و هم لاينتظرون نداءا من أحد ولا مكافأة من أحد ، و لكنهم  يحتاجون فقط لصحوة من حولهم من سباتهم ، فالنائم لا يرى النور.

         لقد تعلمت في حياتي أن ابحث عن الأمل، فليس ثمة شيء أفضل من الأمل يعيننا على العبور خلال مصاعب الأيام و مرارة الآلام. وكثيرا ما أرى بشائر هذا الأمل في معالم المبدعين في كفاحهم، وفى صبرهم و في عزيمتهم، و عزمهم على الاستمرار، أو في المعالم الجمالية و الإبداعية في الكون. و بفضل الله تعالى و توفيقه ، تجدني حيثما ذهبت أتلمس آثار المبدعين إلى أن ألقاهم . وفى خلال زيارة لمدينة طرابلس كان هذا اللقاء بدون ترتيب مع أحد معالم الإبداع الليبي و هو الأستاذ الفنان بشير حمودة. و لقد جمع بيننا أخ و صديق مشترك يعرف ولعي بالإبداع الفني و هو الاستاذ حسن بن طاهر ، الأستاذ بقسم العمارة بجامعة الفاتح بطرابلس.


د . بشير حمودة
التقينا في خلوة الفنان و هي مرسمه و الذي يجمع بين عبق التاريخ و جمال العمارة و الطبيعة عند عنق الزجاجة في سرة مدينة طرابلس. فالمرسم يقع داخل سراي القناصل و يحدها جنوبا زنقة الفرنسيس و غربا قوس ماركوس أوروليوس و شمالا جامع سيدي عبد الوهاب ومن خلف الجامع مدخل ميناء طرابلس.



زنقة الفرنسيس بالمدينة  القديمة بطرابلس

 ود. حمودة  أصلا من مواليد المدينة القديمة بطرابلس عام 1948 ميلادية و المثل يقول: موقع الرأس غالى. و تدرج في مجال الفن من الهواية إلى الدراسة الجامعية في إيطاليا في مجال الفن، ثم الدراسات العليا في المجر الى أن أصبح أستاذا بكلية الفنون الجميلة بجامعة الفاتح.


قوس ماركوس اورليوس

 التقينا ظهرا في يوم مشمس و لطيف زاد اللقاء حلاوة و جمالا. و بعد تعارف سريع تناولنا حديثا ذا شجون عن رحلة هذا الفنان بين ربوع الدنيا، حيث كانت طرابلس دائما في مركزها، و عن الفن و أهله و دوره في الحياة. و قد أعجبني جدا انكباب هذا الفنان على عمله رغم مشاغله كأستاذ في الجامعة بكلية الفنون الجميلة ، و ربما تكون هذه الخلوة  لهذا الفنان مع فنه هي وسيلته في صناعة الأمل.


جامع سيدي عبد الوهاب بطرابلس

 و ملا لقاءنا جو رائع من المودة و الإكرام و كأنني أعرف الرجل منذ زمن بعيد، و لعل الأمل المشترك في مستقبل سعيد لبلادنا كان عروة اللقاء. وكانت فرصة لا تقدر بثمن للإطلاع على إنتاجه و الذي صورت العديد من لوحاته لأحمل الأمل معي وهاأنذا أشرككم معي في بعض معالم جماله.



و رغم إعجابي الشديد بما رأيت فإني لن أقول رأيا فيما رأيت ، بل سأكتفي برأي شيخ هذا الفن ألا وهو الأستاذ على قانة رحمه الله ، حيث قال عن هذا المبدع : إنه فنان مطمئن النفس يتحرك الكون حوله فينساب معه في صعوده و هبوطه يراقب و يعمل ، يتكلم بهدوء و يجمع من اللحظات ألوانها. و كان منذ نشأته الأولى يصوغ أعماله بهدوء و روية ، ترعرع و عاش طفولة حبيبة بصحبة والده الذي كان عاشقا للطبيعة و جمال اللحظة ، يبحث عنها برفقة ابنه في بساتين تاجوراء و شطوطها بجوار سيدي الأندلسي ، أو عند سيدي عامر ، بين غابات الزيتون و أشجار النخيل . كان هذا أول الدروس و كانت رفقة و ريادة ارتوى فيها بلون الأرض و حمل ألوان سعف النخيل و أشجار الزيتون في أعماق صدره . و كان اهتمامه باللون هو البعد الأفقي و الشامل لتتبع خلجاته، و استمر إلى أن أصبح اللون سمحا و اتحد بالسلوك اليومي للرسام و أصبحت وحدة الفارس و الجواد و وحدة الحياة و الإحساس و العمل.


أحد أركان مرسم الفنان بشير حمودة
أما الناقد و الفنان التشكيلي الأستاذ على الزويك فيصف الأستاذ بشير بقوله : هذا الفنان ذاكرة جمالية طرابلسية معبرة  بصدق و حميمية عن المكان و أهله عبر لوحاته ، و أهم ما يميزه عن غيره هو تخليه عن الادعاء بفن المهام الكبرى التي يروج لها المنظرون في مجالات الفن التشكيلي . إنه ذاكرة وجدانية ملتصقة بالجميل المطمئن الباعث على السرور ، حتى لو كان هذا السرور عابرا . أحيانا كثيرة كان يهرب بجلده من مهامه الاجتماعية ليخلو بفنه ، إنه فنان ، مزيج من الخجل و الحزن ، حزن ورثه الفنانون في بلادنا لغياب التوثيق لمسيرة الابداع .
و الآن دعونا نحاول تحسس طريقنا في التعرف على جوانب من مسيرة هذا الفنان من خلال بعض اللوحات في عدد من المقالات، ومنها على سبيل المثال جوانب الجمال في فتاة من طرابلس بالزى التقليدي القديم. وبالرغم من أن هذا الزى أي الفراشية  يخفى جميع المعالم ولا يسمح لها إلا باستخدام نصف بصرها ، فهو يبرز جمال البسمة و إطلالة الأمل فى استحياء .

فتاة ليبية

 فالمرأة الليبية هي فعلا الجندي المجهول في معركتنا من أجل البقاء، فهي كانت لا ترى من الدنيا أكثر من نصفها خارج البيت، هذا إذا كانت تخرج من البيت. وقتها كان موقوفا لرعاية الأبناء و توفير كل ما تحتاجه الأسرة من معالم الاستقرار و الاستمرارية من محبة و حنان في صبر و صمت، مع عمل دءوب يصل النهار بالليل، فهي في النهار مربية و بالليل ممرضة. حرمتها ظروف المجتمع من التعليم و لو في ابسط أشكاله اللهم إلا ما تعلمته من أمها أو جدتها في الصغر و مع هذا أبدعت في مهمة الأمومة، وكل منا يعرف دور أمه في حياته و قيمتها فيها.
بينما نرى في اللوحة التالية معالم المدينة ، في تقاطع المباني و الشوارع عبر العصور حاملة بصمات التاريخ داخل الجغرافيا ، انها طبقات متراكمة من أنماط العمارة و الحضارة في مسيرة ألفى عام .  تراكمية عجيبة كلما ازدادت ارتفاعا اختفى بين طبقاتها صانعوها، بل تردم حتى ابسط إشكال الحياة التي جاءت لتدعمها، و يبدو ذلك واضحا في غياب أي اثر للزهر أو الطير أو الشجر. انه تاريخ محفور على الجدران و في ردهات المنازل و الأزقة يحمل بين طياته آمال و آلام من سكنوا الديار .


و لكن تناغم الألوان و تداخل الخطوط في هذه اللوحة  يوحى بحركية وحيوية و نمو  فى هذه المدينة بشكل رائع و بديع . انه الإبداع  و الحس الفني ، و كفى المبدعين شرفا أن الله سبحانه و تعالى وصف نفسه بأنه بديع السموات و الأرض . و لهذا الحديث بقية من شجون نلتقي معها في وقت لاحق بإذن الله تعالى .
 و يجب أن لا يفوتني هنا التوجه بالشكر لجهاز تطوير المدينة القديمة و الذي يشرف على إحياء معالم هذا الجزء الهام حضاريا و تاريخيا من طرابلس. 

No comments:

Post a Comment