Friday, January 14, 2011

مثلما ينتحر الجميع ببطء انتحر هؤلاء

لقد لفت نظري حرقة  الكاتبة صافيناز محجوب على ليبيا و على درنة و  أهلها في العديد من كتاباتها و منها مقال عن ظاهرة الانتحار و ركزت فيها على عينات من مدينة درنة. و يبدو لي أن الطرح لهذا الموضوع كان ناقصا؛ فالجميع في مجتمعنا ينتحرون لكن ببطء. و قبل أن أخوض في هذا الأمر سوف أتناول جوانب من هذا المقال. فكما ذكرت الأخت الكريمة قد يكون للانتحار أسباب عديدة و قد يقدم المرء على الانتحار إذا لم يتوفر له العلاج أو عندما تستشري أسباب أزمته. ففي الغرب قد ينتحر المرء لعدم وصوله إلى ما يبتغيه من السعادة مع توفر كامل مستلزمات الحياة، و ذلك بسبب الفراغ الروحي ، بينما لدينا قد ينتحر المرء لانعدام ابسط مقومات الحياة ، أى عندما يكون الموت أفضل من الحياة ، فلا معنى للحياة لمن ليس له أمل فيها أو طموح يسعى لتحقيقه.
وإذا تطرقنا إلى أسباب الاكتئاب نجدها عديدة في مجتمعنا ، فمنذ نعومة أظفارهم يواجه أبناؤنا صعوبات جمة؛ فلا توجد رياض للأطفال تعدهم نفسيا لمواجهة أقرانهم في المجتمع خلال مراحل الدراسة الأولى ، كما لا توجد نواد للاطفال للترفيه و اللعب البريء.



ملاعب الأطفال فى حديقة عامة

 ناهيك عن مكتبات الألعاب لمن لا يستطيع الشراء أو مكتبات الأطفال و الحدائق العامة المزودة بالألعاب.


ملاعب الكرة  فى الحدائق العامة

ثم إذا دخلوا إلى المدارس فإنهم يجدون مدارس كالسجون ذات أسوار عالية و عنف أدارى من المدرسين و الإدارة على حد سواء، أضف إلى هذا أعمال تنظيف المدرسة و شكل المدرسة و زجاجها المحطم، ناهيك عن انعدام ماء الشرب و دورات المياه. و أذكر فى إحدى المرات أنى سالت أحد الإخوة المدرسين عن حاله فأجابني : الحمد لله نشرب ماء البحر و نتنفس بدون عدادات .  فهل هذه المعطيات تزرع أملا فى الحياة ؟.

ألعاب الأطفال فى حديقة عامة

و إذا انتقل الشباب إلى المرحلة الثانوية يبدأ معهم مشوار الضياع ، فبالإضافة إلى قسوة الحياة يبدأ التدريب العسكري و ما يحمله من محو للميزات الذاتية و روح الإبداع و صولا إلى حالة الانبطاح النفسي و الفكري و السياسي و الانسانى. و كلنا يعرف ان الحياة العسكرية تعد الإنسان للحرب و القتال و هذه حالة استثنائية فى حياة الشعوب و يجب أن لا تكون طريقة للتربية ، فالمجتمع البشرى يحلم دائما بالسلام و يسعى للأعمار و ليس للدمار. وكم من شبابنا ترك المدارس لهذا السبب وبالتالي لم يكمل بناء نفسه و إعدادها.

      ناهيك عن  النفق المظلم بعد التخرج ؛ فلا يوجد عمل إلا لمن كان  والده من أهل المناصب و من يتحصل على عمل فقد يطلب منه أن يبقى فى بيته و لا يزاحم المسيطرين على المؤسسات و الأجهزة الحكومية . و هذه المرحلة كافية لأن تدخل الشباب فى دوامات من الاكتئاب و رفض المجتمع و الانزواء تحت اى ستار . و إذا التزم الشاب دينيا بدون فهم سليم فهى مشكلة وإذا انحرف فالمشكلة أكبر و لا يعرف كيف يخرج من ورطته ، فالمجتمع غير معد لمساعدة هؤلاء  فى ظل انعدام دور المساجد التربوي و  عدم توفر مؤسسات اجتماعية قادرة على التوجيه و المساعدة ناهيك عن العلاج.  
         و من كان موفقا فى الحصول على عمل و استمر فيه فسوف يواجه مشكلة الزواج؛ فتكلفة الزواج باهضة و البيوت غير متوفرة، بل زادت غلاءً ، و السيارات غالية الثمن و المرتبات زهيدة و الأسر فقيرة و محدودة الدخل أصلا. و هذا بدوره يولد اكتئابا للشباب و للأسرة ، فكيف يسعد من يفرض عليه الفشل فى الإعداد و لا يستطيع أن يعين فلذة كبده كي يبدأ حياته؟ و هنا يتسرب الإحباط و الاكتئاب إلى جميع أفراد الأسرة من الجد إلى الأطفال الرضع. و نحن بهذا نقتل الأمل فى نفوس الجميع . و كم هي مُرة أن يشعر الإنسان انه فشل فى مساعدة أبنائه أو فى بناء مساكن لهم أو فى إعانتهم على الزواج. انه مسلسل الاكتئاب و الإحباط المستمر، بينما تتغنى أجهزة الإعلام بالمجتمع السيد السعيد و لا تتناول هذه المشكلات.
  فما أحوج بلادنا للاستثمار فى بناء قدرات الشباب و مساعد تهم على الولوج فى دروب الحياة بدلا من الإنفاق على مشاريع خارج البلد  لن يستفيد منها الشعب الليبي حتى و لو كانت ناجحة. و قبل أن نطلب من الشباب أداء الخدمة العسكرية علينا أن نوفر لهم قطعة أرض و قرضا للبناء و الزواج حتى يكون لهم فى البلاد ما يستحق الدفاع عنه. و رحم الله الشيخ زايد عندما قال: كيف يكون المرء مواطنا و لا يملك قطعة ارض فى البلاد؟ و أمر بتخصيص أراض و قروض للشباب فى دولة الإمارات.
و بالإضافة إلى جميع العوامل المادية المؤدية للإحباط و الاكتئاب نجد العديد من العادات السيئة فى المجتمع ، تبدأ من مقارنة مستوى الأقران وصولا إلى الاستهزاء بمن تكون إمكانياته محدودة لأسباب لا يتحكم فيها ، أو استخدام الألقاب الجارحة و الاستخفاف بمن يكون نموه أو قدرته على الاستيعاب محدودة. و من المستحيل أن يكون كل أبنائنا أطباء أو مهندسين أو متفوقين فى كل المجالات لكن للجميع الحق الكامل فى الحياة الكريمة بغض النظر عن مواقعهم.
 أضف إلى هذا جهل الكثير من أولياء الأمور بالنواحي التربوية و النفسية و التعقيدات التي جدت على تركيبة المجتمع. و هنا أخص بالذكر الأمهات اللاتي فرض عليهن الزواج قبل إتمام الدراسة ، كيف يمكن لهؤلاء استيعاب التغير الكبير الحاصل فى المجتمع و معالجة مشكلات الأبناء فيه؟  إننا بحاجة لوضع برنامج تعليمي فى المساجد للأمهات و النساء بصفة عامة ، فتحفيظ القرآن ليس كافيا لحل أي مشكلة و المطلوب هو الفهم التربوى الصحيح. و يجب أن يشارك فى هذا الأمر كل المختصين فى المجالات ذات العلاقة.
        أما الحديث عن دور الجن فى هذه الأزمة فهو نوع من الهرطقة الدينية ، فلم نسمع عن غزوة للجن قام بها المسلمون فى السابق، كما لم نسمع عن مشاركة الجن مع المسلمين فى أية غزوة. فإذا كان الجن بهذه القوة لماذا لم ينصر المسلمون منهم رسول الله صلى عليه و سلم؟ و لماذا لا تعانى الشعوب الأخرى من أذاهم؟ هذا بالطبع مع ايمانى بوجودهم، لكن علينا أن نبحث عن الحلول لمشاكلنا عن وعى و دراية.
 و اننا نعرف من تاريخ مدينة درنة و أهلها فى فترة الأربعينيات إلى السبعينيات من القرن الماضي حيث كان الناس اقل تدينا وأشد فقرا لكن لم ينتحر منهم احد  و لم نسمع بأحد لبسه جنى إلا فى حكايات العجائز، و كان أمر الجن مقصورا على المشعوذين فقط. و ما كان أستاذ فاضل مثل شيخ المعلمين الأستاذ محمد القديرى يجرؤ ليقترب من هذا الموضوع و يعالج بالرقية، وان فعل فلن يذهب عنده أحد للعلاج. وفى الحقيقة أن الناس كان لديهم أمل كبير فى الحياة  بالرغم من انعدام الإمكانيات، فيا ليت رجال الدين يقومون بأمر الدعوة فى المساجد و يعالجون أصل المشكلة فالخطر كبير جدا و نحن لا نرى إلا البدايات فقد نرى فى المستقبل انتحاريين يأخذون معهم أبرياء لا علاقة لهم بمشاكلهم مثلما يحدث فى الدول الأخرى.
     وأبرز ظاهرة لطلب الموت فى المجتمع نراها فيمن يذهب لمواقع الصراع كالعراق ليفجر نفسه بين الأعداء  كما يقولون، و هذه ظاهرة جديدة فى الفكر الاسلامى القتالي و قد تناولت هذا الموضوع مجلات عالمية و تناقلته القنوات الفضائية.  والله سبحانه و تعالى حف طريق الجنة بالمكاره، فعلى المرء أن يصبر و يصابر و يعيش حياته حلوها و مرها، ولو أن هذا الشباب الملتزم ساهم فى بناء بلده و تعاون مع أهله على البر و التقوى و كان مثالا للعطاء لفتح الله له طريقا إلى الجنة من أوسع أبوابها. و الرسول صلى الله عليه و سلم قال: اتقوا الشبهات. و إذا كان المرء يخشى على نفسه من الرياء فى العبادة ، فكيف يبرر الهروب إلى الجنة بهذه الطريقة و الله أعلم بنتائج هذه الصراعات الدائرة على الأرض العربية؟.
و لو نظرنا إلى المجتمع لرأينا أصنافا من الناس تنتحر ببطء كل يوم ، فعلى سبيل المثال نرى آلاف المدخنين الذين يبتلعون المر بالعلقم كل يوم على حد تعبيرهم ، ويستمرون فى التدخين مع علمهم الأكيد بضرره صحيا  و حرمته شرعيا. و الدولة تقف مكتوفة الايدى و تصنع التبغ و تبيعه و تأخذ عليه الضرائب، بل  لا تحمى بقية الناس من ضرره. و بالرغم من صدور قرارات بمنعه فى المباني، تبقى القرارات حبرا على ورق و تجد الناس يدخنون فى مكاتب الدولة كلها.
      كذلك كلنا يعلم ما لتناول السكريات و النشويات بكميات كبيرة من أضرار صحية ومع هذا نداوم على استهلاكها بكميات مهولة، ثم نتحدث عن مرضى السكري و الضغط و البدانة المفرطة. و حتى بعد اكتشاف أعراض المرض يتهرب المريض من العلاج و بالتالي تتعقد حالته المرضية و ينتهي فى المستشفيات ، أو يذهب للعلاج  خارج البلاد. و إذا أضفنا إلى هذا الإسراف فى تناول الدهنيات من لحوم و شحوم و دهون، فإننا بذلك نفتح الباب لتصلب الشرايين وأمراض القلب، و كل هذه الأمور مرتبطة بالحالة النفسية للمواطن و الدافع وراؤها هو الإحباط و الاكتئاب و فقدان الأمل. فمتى نفيق من سباتنا و نرتب حياتنا بطريقة سليمة بدلا من الجري وراء الخرافات؟ علينا أن نحافظ على البيئة وعلى نظافة مصادر غذائنا من المواد الكيماوية و الضارة من مبيدات و أسمدة كيماوية و مواد حافظة، كما يجب علينا توفير الماء الصالح للشرب و الصالح للحياة، و القائمة تطول إذا أردنا أن نتناول جميع الأعراض.
        و ان أهم علاج لمحاربة ظاهرة الانتحار و ما تأسس عليه أصلا من إحباط و اكتئاب يكمن فى بعث الأمل فى النفوس من خلال برامج التوعية فى الإعلام، و برامج الدعوة و الإرشاد فى المساجد ، و من خلال برامج التنمية الاقتصادية و الاجتماعية للمجتمع ككل.
     علينا أن نيسر سبل العيش الكريم و نوفر كل أسباب الراحة النفسية للمواطنين و أن نوفر وسائل الترفية السليم و نشجع الناس على ممارسة الرياضة. و أهم من هذا كله توفير أسس الأمان الاقتصادي للجميع بما يزرع الأمل فى الحياة.  والله سبحانه و تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فلنحرص على العودة إلى الله على فهم و بصيرة و عندها سوف تتغير أحوالنا نحو الأفضل و نرتب أولوياتنا و نعيد هيكلة مؤسساتنا بما يخدم مصالحنا على المدى القريب و البعيد.

No comments:

Post a Comment