Saturday, January 22, 2011

الصالحين بن سعود.. العبد الصالح



         كل نفس سوية في مدينة درنة تحمل للحاج الصالحين بن سعود أجمل ذكرى طيبة، فهو كان عنوان للخير و أهل الخير في كل خطوة يخطوها. كان وجهه يشع منه نور الإيمان و عمله لا يخطى طريق الخير و الصواب و صحبته كانت لأهل العلم و الخير و الدعوة فلا تراه إلا مع الشيوخ و العلماء و أهل العلم.  ومكانه المعروف كان بالمساجد و طريقه الدائم كان في العمل و النصح بالمعروف و النهى عن المنكر، و كانت الابتسامة المعهودة عنه لا تغيب في أحلك الظروف. كان نموذجا للقيادة الأهلية الخيرية المباركة تقبل الله روحه الطاهرة و أسكنه فسيح جناته يغير حساب، فطوبى و ألف طوبى لمن كانت هذه صفاته و نعم العبد الصالح الحاج الصالحين بن سعود.

نشأته

ولد الصالحين بن سعود بمدينة درنة سنة 1921م في شهر يناير على الأرجح، و هو الابن الوحيد الذي كتبت له الحياة من خمس عشرة مولودا قضوا حتفهم جميعا قبل أو بعد الولادة بسبب كثرة الأمراض و الأوبئة في تلك الحقبة من تاريخ بلادنا أيام الاحتلال الإيطالي الغاشم. والده هو مفتاح بن إبراهيم بن ميلاد بن على بن سعود الذكيراني المصراتي، ووالدته هي السيدة الكريمة سليمة بنت فرحات بالليل من عائلة بالليل المعروفة بدرنة. نشأ الصالحين و ترعرع كبقية أترابه في ذلك الوقت، فعند ما بلغ السادسة من العمر التحق بالكتاب لتعلم مبادئ اللغة العربية و علوم القرآن على يد الفقيه الأسطى عمر، ثم التحق بالمدارس الإيطالية آنذاك و درس فيها لمدة ثلاث سنوات حيث تعلم القراءة و الكتابة و اللغة الإيطالية. و بسبب الظروف المعيشية الصعبة توقف عن الدراسة كالكثيرين من أبناء جيله ليساعدوا ذويهم في السعي على الرزق. فبدا الصالحين حياته العملية مبكرا فكان يعمل مع والده في أعمال الزراعة، ثم يقوم من الصباح الباكر ليوزع المحصول و بعد ذلك يذهب إلى عمله في ورشة إصلاح الدراجات الهوائية مع المرحوم منصور المقصبي و الذي كان يناديه حتى آخر عمره يكلمه "عرفي" و هي تعني معلمي فهو من علمه صيانة الدراجات. و في ذلك الزمان كانت الدراجات أحدث وسيلة للمواصلات. ثم تطورت حاله فتحول إلى صيانة الساعات و تجارة الساعات إلى أن أصبح من الأسماء المعروفة على مستوى ليبيا في مجال الساعات.

صفاته

كان الصالحين عنوان للصلاح فعلا كما قالت العرب لكل امرؤ من اسمه نصيب، كان سمحا إذا باع و إذا اشترى و كان رقيقا لينا إذا تحدث أو نصح. كان يحب الخير لكل الناس بدون استثناء و لا يحمل حقدا على احد فوسع الناس بحلمه و حسن خلقه و كان محبوبا من كل من عرفه و حتى الذين أساءوا إليه انتهوا إلى محبته و أصبحوا من أصدقائه. كان يصل الرحم مهما كانت بعيدة و يجيب دعوة الناس في المناسبات و كان دائما يقول:ما عُبد الله بأفضل من جبر الخواطر، و إن من دعاك يسره قدومك فلا تكسر بخاطره. كما كان لا يغيب في ي الوفيات و بحرص على تعزية كل الناس من عرف و من لم يعرف. كان كثير الإنفاق في سبيل الله و الحكايات لا حصر لها و العديد من الناس يذكر مساعداته فكان يساعد من يرغب في الزواج عليه و يقرض من تمر به ضائقة و يعفو عن المدينين، و يتصدق علي المحتاجين و يبني المساجد و الكل يعرف في درنة دوره في بناء مسجد سيدنا زهير و مسجد سيدنا بلال و دوره في بناء مسجد سيدنا بلال في حي الفويهات بمدينة بنغازي مع شريكه و رفيقه الحاج محمد الشيخ، و كان له بند في حساباته تحت اسم المساعدات الخيرية ينفق من خلاله.

 كان ابنا بارا بوالديه و أبا عطوفا حنونا على أولاده و زوجا كريما وفيا و شريكا في التجارة أمينا و صادقا. كما كان مسلما على البلاء و الابتلاء صابرا فدخل السجن عدة مرات و تعرض لأبشع صنوف التعذيب و لم تثبت عليه تهمة سياسية و لم يصدر بحقه حكم إلا البراءة، و كان يحتسب هذا في سبيل الله و لا يحمل حقدا في نفسه على أحد، و كان وطنيا مخلصا لوطنه و دينه و قومه طوال حياته. و كان يكرم الضيف فقلما جلس على مائدته منفردا بل كان بيته مجلس علم يلتقي فيه الوعاظ و الشيوخ في المدينة و تدار فيه أنفع الدروس و الحلقات العلمية، و في مواسم الحج كان بيته محطة تقليدية لحجاج المغرب و الجزائر و موريتانيا. فبكل هذا اجتمعت فيه صفات المواطن الصالح و المؤمن الصالح و الإنسان الصالح و الأب الصالح و الابن الصالح و التاجر الصالح فحري به أن يكون العبد الصالح.

قصته مع الساعات

بينما كان الصالحين يعمل بصيانة الدراجات استهوته تقنية أدق و أرقى منها ألا و هي صيانة الساعات فكان كثير التردد على واجهة محل صيانة الساعات الوحيد بالمدينة و الذي كان يملكه مستوطن إيطالي و تشاء الأقدار أن يساعده أحد أبناء المدينة في التعرف على هذا الفني فيعلمه هذه الصنعة و يتعاون معه ثم ينتهي به الأمر إلى العمل معه، ثم فتح محل لتصليح الساعات خاص به. و مع الأيام اشتهر الصالحين كفني قدير في إصلاح الآلات الدقيقة، و مع زيادة الطلب على الخدمات استعان الصالحين بمساعد قادم من طرابلس يدعى الطاهر الجلاصي و كان فني ماهر في صيانة الساعات. و مع توسع العمل بدا الصالحين يفكر جديا في توفير ما يحتاجه من ساعات و قطع غير فتوجه إلى مصر أولا ثم قرر أن يراسل الشركات في بريطانيا و سويسرا. و كان في بادئ الأمر يستعين بصديقه محمد الشيخ الذي كان يجيد الإنجليزية ثم اتفق معه على تأسيس شركة بن سعود و الشيخ التي نمت مع الأيام و أصبحت أكبر شركة في محال الساعات. و استمرت هذه الشركة إلى أن تم إلغاء النشاط التجاري في ليبيا و تحصلت على توكيلات عدد كبير من ديار الساعات في العالم. و بعد رفع الحضر على التجارة عادت الشركة لتتوسع إلى شركات و محلات عديدة لأبناء بن سعود و الشيخ و العاملين معهم في كامل ليبيا. و شركة بن سعود و الشيخ جدير بها أن تسمى شراكة الصالحين فهي كانت شركة تجارية مثالية بدأت برأسمال بسيط و من موقع بسيط بدرنة لتصبح من كبرى الشركات الوطنية الناجحة بفضل إخلاص و نشاط و صدق العاملين عليها و هي تعتبر إحدى قصص النجاح الليبية في مجال التجارة و رجال الأعمال و جديرة بالدراسة و التقييم.


الصالحين بن سعود الأول من اليمين خلال إلقاء الرئيس الجزائري فرحات عباس خطابه في درنة،
ثم السيد فخري السنوسي على يساره ثم الرئيس فرحات عباس ،نقلا من كتاب الرئيس فرحات عباس

دوره الاجتماعي

نظرا لما كان يتحلى به الصالحين من صفات خيرة و سيرة عطرة بين الناس فكان رحمه الله إذا تدخل في وساطة بين الناس لا ترد وساطته، و إذا أصلح بين فئتين متخاصمتين قبل الجميع بشروطه و مصالحته. و إذا شفع لشخص في أمر ما لا ترد شفاعته، و إذا خطب في زواج لا ترد خطبته و لكنه كان لا يزكي أحدا إلا إذا كان واثقا من دينه و خلقه حتى من أولى القربى. و إذا ضمن أحدا في مسالة قبلت ضمانته و إذا شهد قبلت شهادته. و كان لأمانته و صدقه يتم اختياره دوما أمينا لصندوق أي لجنة خيريه تؤسس في مدينة درنة فكان أمينا لصندوق لجنة تحرير الجزائر و صندوق لجنة نصرة فلسطين و صندوق المؤسسة الخيرية لمساعدة المرضى الفقراء و صندوق إنشاء مسجد الصحابة. و كان بالتالي ركنا هاما في جميع إعمال الخير و الإصلاح و الصلاح بمدينة درنة.

دوره في النشاط الرياضي و الثقافي


الصالحين مع فريق جمعية عمر المختار يوم 11 ديسمبر 1949م

كان للصالحين دور بارز في مجال الشباب فهو يعرف قيمة الرياضة و الثقافة في حياة شباب الأمة فكان يرأس قسم النشاط الرياضي في جمعية عمر المختار الوطنية، كما أسس أول نادي رياضي في درنة و هو نادي درنة الرياضي المعروف بنادي الإتحاد الرياضي و المعروف حاليا بنادي الأفريقي. كما تبرع لاحقا بإنشاء مكتبة ثقافية لناديي دارنس و الإتحاد بمدينة درنة، كما كان ينسق المحاضرات و الدروس في أمسيات ثقافية عديدة في الناديين و كانت هذه المحاضرات تلقى إقبالا كبيرا. و كان طوال حياته رمزا للشباب في حركته و مشاطه و حيويته و التحامه بكل الناس فهو كان رجلا جماهيريا بصدق. و قد القي الله محبته و هيبته في قلوب كل من عرفوه و حتى  المجاهرين بالمعاصي كانوا يستحون منه و لا يظهرون أمامه ما يبدونه أمام غيره من الناس.


وفاته

 بعد عمر يناهز 78 عاما انتقل الحاج الصالحين بن سعود إلى رحمة الله يوم 14 فبراير سنة 1999م بمدينة درنة و دفن فيها و بذلك انطوت صفحة جليلة لأحد أصحاب الفضل على درنة و أهلها و خير أبنائها، و أذكر أنى بعثت تعزية لآله و أبنائه قلت فيها كلمة جاءت عفوية و لكنها عبرت بصدق عن مكانة الصالحين في نفسي فقلت فيها: لقد فقدت مدينة درنة بوفاته خير الصالحين فيها. و بعد ذلك استدركت و فكرت في ما قلت فوجدتها عبارة جامعة لخيره هو فيها و خير الصالحين و بركتهم و أفضل من عرفنا منهم في المدينة و الحمد لله الذي جمعنا في حياتنا بهذه النوعية من الرجال و الله ندعو أن يسكنه فسيح جناته مع الصديقين و الصالحين و الشهداء و حسن أولئك رفيقا و أن يوفق ذريته ليسيروا على دربه على طريق الخير و التقوى و الصلاح.

1 comment: