Tuesday, December 21, 2010

دروس نبوية في التربية

         إن الاهتمام بتربية الجيل الجديد هو أهم عناصر تقدم الأمم الأساسية فهم رجال المستقبل و حملة أفكار الأمة و بذلك يحملون بذور بقائها و استمرارها. و الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم أعطى هذا الموضوع جل اهتمامه فهو كان رقيقا و رفيقا و رحيما مع الأطفال في داخل بيته و خارج بيته، بل كان مدرسة خاصة في مجال التربية تغرس أسس الإيمان في سن مبكرة في نفوس الأطفال بيسر و سهولة. و لقد كان أساس مدرسته يسروا و لا تعسروا، و بشروا و لا تنفروا، و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، و هذا نلمسه بوضوح في حديث الغلام.
الحديث الشريف
        عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال:
يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف.
 رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
    
       تتجلى في هذا الحديث الشريف ملامح أسلوب التربية النبوية في تنشئة الجيل الجديد، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم يحمل الطفل خلفه على الدابة و يغمره بالعطف و الحنان فيتحدث إليه كي يستفيد من وجوده معه فينفعه ببعض الكلمات. و الرسول في هذا الموقف لا ينتظر سؤالا من الغلام كي يجيب و لكنه يفتتح الكلام بخطاب ود، فيناديه يا غلام. و في هذا الأسلوب حكمة و بلاغة مع رفق بالمخاطب، فكلمة يا غلام جعلت الأمر يعنى كل غلام، أي كل طفل غير بالغ للتكليف و لو ناداه باسمه لكانت المعلومة تخصه هو فقط و لا تعنى غيره. ثم أفاده بأنه يريد أن يعلمه كلمات كي يجذب انتباهه لما سيقول له، فالتعليم ليس مجرد حديث عابر بل إيصال معلومات تناسب قدرة المتلقي. و هنا يبرز اهتمام الرسول الكريم بتعليم طفل لم يبلغ الحلم، فهو يعطى جزءا من وقته لتعليم الغلام و في هذا تثمين لدور الجيل الجديد فهم سيكونون قادة المستقبل. أما لفظة كلمات فتحمل في طياتها كلمات لها قيمة و وزن و أبعاد فكلما قل الحديث زاد تركيزا و أبعادا، و بالتالي على السامع أن ينتبه لكل كلمة منه فهي ليست بالحديث الطويل و هذا كذلك من الرفق بالمتلقي في مثل هذه السن. ثم بعد ذلك دخل في التوجيهات النبوية فقال له: احفظ الله يحفظك، و كلمة احفظ كلمة جامعة لمعان عديدة فمنها الحفظ بمعنى التذكر و منها الحفظ بمعنى إعطائه ما يناسب قدره و منها التعلق به و محبته و منها المحافظة على السمع و الطاعة أو احترام حدوده و كل هذه المعاني تنمو مع الغلام مع سنوات تقدمه في السن فهو يبدأ بالأصل وهو الحفظ في القلب في الصغر و ينتشر هذا الحفظ ليغطى كل خطوة يخطوها في حياته. و جعل الرسول الكريم جزاء هذا الحفظ أن يحفظه الله، فيبدأ الحفظ في النفس و البدن في الطفولة و ينمو مع الأيام ليغطى الحفظ في الطاعات و الحدود و العقائد و النيات.   و الرسول صلى الله عليه و سلم لم يحدد للغلام كيف يحفظ الله و لم يكلفه بعمل من العبادات بعينه و لكنه شرع له الأساس ألا و هو حفظ الله، و هذا الحفظ ينمو و يتطور مع تقدم سنه و بالتالي بلوغه التكليف في الشريعة الإسلامية. و هذا جانب هام في إستراتيجية منهاج التربية النبوية. ثم يؤكد الرسول الكريم على حفظ الله فالعملية ليست بسيطة في ذاتها و الأجر عليها لذلك مضاعف فيقول له: احفظ الله تجده تجاهك. و هنا يبرز حفظ الله بدوام ذكره و دوام التعلق به و عندها تحدث المعية، و يحضرني نصيحة احد المربين بقوله لغلام من المتأخرين عند ما تغدو إلى فراشك قل: الله معي ، الله شاهد على، الله ناظر إلى. و بطبيعة الحال يتطور الحفظ مع دوام العبادة و التقدم في السن و بهذا تتطور المراقبة لله مع الأيام.
ثم بعد ذلك ينتقل الرسول الكريم من محطة التعلق بالله على نمط التعلق بالوالدين فيتحدث عن السؤال فهو يعرف أن الطفل في هذه المرحلة عادة ما يسأل والديه أو من يرعاه، و هو بالتالي يعرف معنى السؤال و قيمته فيوجهه الرسول الكريم إلى سؤال الله سبحانه و تعالى فيقول له: إذا سألت فاسأل الله. فمن غير الله يعطى أو يمنع، و من غير الله يجيب دعوة المضطر إذا دعاه. و الله  سبحانه و تعالى يسخر من خلقه من يجيب المسألة، فكل الخلق هم أدوات لتوصيل كرم الله و فضله. و الرسول بهذا التوجيه يريد أن يثَبت في نفس الغلام أن الإجابة لكل سؤال تأتي من عند الله. و بعد السؤال ياتى دور الاستعانة فيقول له: و إذا استعنت فاستعن بالله.  فالله هو القادر القاهر و مصدر كل حول و قوة، فهو أولى أن يستعان به في كل حال، و هذا التوجيه منسجم مع قوله تعالى: إياك نعبد و إياك نستعين. و إذا كون الغلام علاقته بالله بدوام الحفظ و توجيه السؤال و الاستعانة فإن الرسول الكريم لا  يريده أن يعلق أماله على البشر و لا أن يخشى منهم بأسا فالله قد كتب له رزقه و نفعه و ضره مثل ما كتب عليه يوم اجله، فيقول له اعلم علم اليقين الذي لا شك معه أو فيه أن اجتماع كل الأمة ما كان لينفعه أو ليضره إلا بشيء قد كتبه الله له أو عليه. و بالتالي عليه أن لا يخشى إلا الله و لا يرجو إلا كرم الله و فضله، إن مثل هذا التوجيه النبوي يعد رجال المستقبل و يؤسس لقادة الأمة فيضع حجر الأساس لتفكير استراتيجي ينمو و يزداد ترسخا و توثقا مع الأيام.
 والرسول صلى الله عليه و سلم لم يكلفه بعمل من أعمال العبادة أو المجاهدة أو حفظ القرآن أو النوافل فهو يعرف أنه غير مكلف و بالتالي أوحى إليه بأصل هذا الأمر ألا و هي المبادئ التي تنبني عليها الحياة الإسلامية. ثم يختم كلامه بأن هذا الأمر رباني و عام و صالح لكل غلام في أمة الإسلام و بأن هذا التوجيه ثابت و مرتبط بكل أحكام الدين و أنه أصل و لا قول بعده حين ما يقول له: رفعت الأقلام و جفت الصحف، أي أن هذا الأمر تم الفصل فيه.
        ألا ترون معي أنه يجب على المربين و المعلمين و الآباء أخذ العبرة من هذا المنهاج النبوي فلا يحملون الأطفال فوق طاقتهم و لا يطلبون منهم أداء فرائض أو نوافل لا تجب عليهم و لا تناسب سنهم، و هذا الأمر هو من أسس فلسفة التربية الإسلامية فالمرء مطالب بمعرفة ما يجب عليه تأديته بحكم الشريعة. و جودة التوجيه و التعليم و قيمة محتواه هي الهدف و ليس كمية أو حجم المعلومات، مع اختيار أنسب الأوقات و ألطف الأساليب.  فالغلام كان منفردا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و ملاصقا له على الدابة و يشعر بقربه و حنانه و رحمته مثل ما يعرف له قدره و بالتالي كان استقباله رائعا فوعى الدرس و نقل إلينا هذا الحديث ثم كبر مع الأيام ليصبح أحد أشهر علماء هذه الأمة و كان نعم التلميذ لأفضل معلم عرفته البشرية عليه الصلاة و السلام.

No comments:

Post a Comment